رشفة من بحور المُعلقات
جاءني حفيدي مبغددًا للذيلِ كالأديب الأصمعي، سوى أننا لا نقطُن في حي أرض الموصلِ حيث كان الأصمعي.. فإذا به يبادرني سائلًا: “ماذا تفعل يا جدي؟! أتترك حِواراتنا الشائكة لتجلس بين جنبات أوراقك…” ثم استرسل في تيه قائلًا: “لعل حديثنا لم ينل شرف رضاك!” تبسمت بدوري للصبي اليافع، ثم وضعت صفحات من الشعر بحوذتِي على منضدةٍ أمامي كان قد داعبها ضوء الشمس على استحياء، بعد أن تسلل لها من النافذة، وقلت في مكرٍ: “حاشا يا ولدي، فحديثكُم الشهد عند الذائق الفهمِ، وأنا رجلٌ كبير دِينهُ قش… ومن دِينهُ قشٌ لا يتحرش بالنار.. أرى أنني في غِنى عما تقولون.” تمعن الفتى الكهلَ الذي أمامه..
وأتبع قائلًا: “حسنًا، أخبرني عما بحوذتك يغنيك عنا؟!”
_”إيهٍ يا ولدي هنا -وأشرت لورقاتٍ- دُرر كامنات وكلماتٍ مؤنسات، حيوات كاملات حديقة ٌغناء بها أرض المعاني الفذة، لتُظهر عبق الحُسن في لغة الضاد؛ هنا حيث أبيات دقت معانيها لجلالتها على أن توصف، لتصل إلينا في ماهيَّات رفيعة القدر فنبصرُ التنافر في الأضداد والموافقة في الأنداد.. ها هنا حيث تقطن أبياتٌ موجزات تُسفر عن لغةٍ طيّعة يُبرزها الشعر يا ولدي.”
“وما الشعر يا جدي؟!”
_ “الشعر -أعزك الله- هو منظوم القول غَلب عليه لشرفه الوزن والقافية على سبيل القصد، وهذا ما قاله لسان العرب ابن منظور، وهو علمٌ من علوم العرب تركب تركيبًا متعاضدًا متراصًّا البنيان.
ذو أنواع عدة تحمل كل قصيدة غرضًا مختلفًا عن أُختها، وقد يتشابهُ الاستهلال والبناء كما كان العهد في شعر الجاهلية والمعلقات، حيث افتتحَ جُل شعراء المُعلقات قصائدهم بالبكاء على الأطلال، وكان أشهرهم الملك الضليل (امرؤ القيس) حيث قال:
“قِفا نبكِ من ذِكرى حبيب ومنزل.. بسقط اللوى بين الدخول فَحَوْمِل”
أما عن أخبار طرفة ابن العبد فهو من أصحاب المعلقات الطِوال، وبلغ من الشعر ما لم يبلغه الكثيرون، وذُكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- امتثل بيتًا من معلقته إذا استراب في خبر يأتيه وهو:
»ستبدي لك الأيام ماكنت جاهلًا.. ويأتيك من لم تزود بالأخبار”
إلا أنه -صلى الله عليه وسلم- ما كان يقول الشعر صريحًا، فقد بدل نهاية البيت، وكان يقول أبو بكر -رضي الله عنه-: “ليس هكذا يا رسول الله”، فقال -عليه الصلاة والسلام-: “إني والله ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي، وأصل البيت يا ولدي..
ستبدي لك الأيام ماكنت جاهلًا ويأتيك بالأخبار من لم تزود.”
“على رسلك يا جدي، أخبرني أولًا ما هي المُعلقات ولماذا سُميت هكذا؟
داعبت الصبي قائلًا: “ألك في شيء من الحلوى، ولا بأس في كوب من الشاي.
الآن أُخبرك يا صغيري، المعلقات هي قصائد طويلة ترجع للشعر الجاهلي استجادها العرب وأعجبوا بها لجمال أسلوبها ودقة معانيها فخلدوها، والذي أذهب إليه أنها سُميت بذاك الاسم لتعلقها في القلوب والأذهان، ولأستزيدك علمًا.. رأى النقاد أن المعلقات سبع وأضاف آخرون إلى السبع ثلاثًا.
- محمود درويش – عن قصيدة مديح الظل العالي
- تاريخ الشعر العامي فى مصر
- علي عزت بيجوفيتش | ابحث في نفسك عن حريتك
- الرسالة الأدبية مطرقة وسندان في حضرة العنصرية
- الحل لمعضلة القنفذ.. احجر جسدك حرر عقلك
ارتشفت رشفة من كوب الشاي الماثل أمامي، وجعلت أنظر للفتى اليافع يرمقني بنظرات شاذِرات، ولسان حاله رجلٌ عجوز كبر سنُّه ورقّ عظمُه واحدودب ظهره، وأظنه قد اقتربت منيتهُ… استطردتُ مشيرًا إلى دواوين مختلفة متراصة فوق بعضها البعض قائلًا: “هنا أحيت مدارس مختلفة الشعر بعد ضياعه، عند انتهاء عصور الضعف الإسلامي وقبل أن أغوص بحثًا عن لآلئ تلك المدارس معك. أعرني سمعك لأطربك بأبيات مُتلونات من مدحٍ وهجاء وغزلٍ ورثاء.. وحبذا بعض من الفخر…”
“لا بأس يا جدي فقد أنلتكُ أُذنًا غير واعيةٍ، ورب منتصتٍ والقلب في صممِ..” غضضتُ الطرف عن رد الفتى اللعوب واتكأت متابعًا: “جاء في المدح أبيات حِسان عن النبي العدنان من نزار قائلًا:
عز الورود وطال فيك أوامُ..
وأرقت وحدي والأنام نيامُ
ورد الجميع ومن سناك تزودوا.. وطردت عن نبع السنى وأقامُوا
ومنعت حتى أن أحوم ولم أكد.. وتقطعت نفسي عليك وحامُوا
ولا تقدر عيني أن ترمق كلمة هجاء دون استرجاع شعر جرير وهو يوبخ الفرزدق فالشعر بينهم سِجال، أحدُّ من السيف وأسرع من السهم وأدوم من العمر، لسان حال جرير.. لأدقنَ بالحرف فاك ولأقرعنَ قفاك ولأرسلنها صواعق محرقات، وعقارب وحيات، تلدغ الأبشار وتهتك الأستار، وجاء عنهم في الأخبار ما تتوالهُ الأجيال في مختلف الأعمار…
يقول جرير:
“أعددت للشعراء سمًّا ناقعًا فسقيت آخرهم بكأس الأول
لما وضعت على الفرزدق ميسمي وضغا البعيث جدعت أنف الأخطل
أخزى الذي سمك السماء مجاشعًا و بنى بناءك في الحضيض الأسفل”
وجاء في الرثاء بعد شهرةِ الخنساء، يزيد بن حذاق فهو أول من رثا نفسه قبل موته قائلًا:
“هَلْ لِلْفَتَى مِنْ بَنَاتِ الدَّهْرِ من وَاقِ أَمْ هَل لهُ من حِمَامِ الموتِ من رَاقِ
قد رَجَّلُونِيَ وَما رُجِّلْتُ من شَعَثٍ وأَلْبَسُونِي ثِيَابًا غَيْرَ أَخْلاَقِ
ورَفَعُونِي وقالوا: أَيُّمَا رَجُلٍ وأَدْرَجُونِي كأَنِّي طَيُّ مِخْرَاقِ…”
وعن الغزل يا ولدي جاء كثيرٌ، وأشهر ما قيل قول الأعشى في مُعلقتهِ..
“غَـرَّاءُ فَـرْعَـاءُ مَـصـْقُـولٌ عَـوَارِضُـهَا
تَمشِي الهُوَينَا كَمَا يَمشِي الوَجي الوَحِلُ”
واستهل الأحنف في أبيات حب ووفاء قائلًا:
“أزين نساء العالمين أجيبِ..
دعاء مشوق في العراق غريب
أما الفخر يا ولدي من شيم العرب المعهودة، وأجمل ما قيل في الفخر عن عمرو بن كلثوم سيد تغلب في مُعلقته..
“أبا هندٍ فلا تعجل علينا..
وأنظرنا نُخبرك اليقينا
بأنا نورد الرايات بيضا.. ونصدرهن حمرًا قد روينا..
وأيام لنا غر طوال..
عصينا الملك فيها أن ندينا”
“الآن الآن يا جدي تأكدت أن موضوعك شائق، وإني عاتبٌ على نفسي لسؤالي الأخطل” ثم أتبع بصوت مُتهدج يعتريه الحياء: “ليتني التزمت الصمت واستكملت مع أسرتي حوارهم الأهوج فضلًا عما فعلته بي يا جدي.”
ضحكت لصراحته المُدمية وقلت في تيهٍ: “لقد ذكرتني ببيت شعرٍ قا……” لم أكمل جملتي وإذ به أسرع للهرب! أمسكت به مبتسمًا: “مهلًا يا صغيري، أنسيت أنني أخبرتك أننا سنبحر سويًّا باحثين عن لآلئ المدارس المختلفة التي أحيت الشعر من مرقدةِ بعد ضعفه.” تنهد مازحًا: “أرى أن لنا عودة يا جدي.”
“وأظنه كذلك يا ولدي… لكنني آمل ألا تكون قد حانت منيتي!”