أريد حياة قصيرة
مضى من عمري ربع قرن، هذا رقم كبير بالنسبة لي، أشعر أني عشت حيوات عدة تخصني وتخص غيري وأفنيت أيامًا كثيرةً، وجربت كل المشاعر.. كلها من فرط الحزن لفرط السعادة، ومن فرط المحبة لفرط الكراهية، ومن فرط السكون لفرط الحركة، جربت كل وأي شيء فكرت فيه، وفجأةً وجدت أن الحياة صارت ضحلة لا تهبني الجديد، تعيد الأيام وتعيد التجارب وتعيد الأشخاص، هل نضب مخزون حياتي قبل أن تنتهي حياتي؟ هل عشتها سريعًا وانتهى كل شيء وباتت صحراء قاحلة؟ أشعر بثقل الأيام القادمة والسنوات التي ستأتي ولا أدري بما سأملأها، هل ما تبقى سيكون معاناة سيزيف في حمل الأحجار لنفس المكان بتكرار لا ينتهي؟ هل سأحمل تجاربي ودوائري والأشخاص الذين سأعرفهم وحتى لحظات السعادة والحزن؟ هل سأحملها على ظهري وأكررها بملل قاتل؟ هل سأصبح كل يوم لأخوض نفس الروتين وأقول نفس المزح وأغضب من نفس الأشياء وأفرح لذات الأشياء؟ هل يمكن أن ينضب الإنسان في عمر صغير كهذا؟ هل أنا وحدي في هذا الأمر أم أن هناك في حيوات أخرى أناس آخرين يشاركوني ذات السأم؟
طوال الوقت في رأسي صوت السيدة في ميكروفون البنك، العميل رقم كذا شباك رقم كذا، لكنها في رأسي تقول مضى كذا من العمر لم يتبقَ لك الكثير، في كل وقت تخبرني أن وقتي أوشك على الانتهاء.. تضغط على أعصابي، تجعلني أفعل كل الأشياء بسرعة وفي آنٍ واحد، وكأن العمر لا يكفي لشيء. ضجرت من الأمر لسنوات ثم اعتدته ثم صارت أمنيتي الوحيدة أن يكون العمر قصيرًا وعريضًا، وهذا هو عين ما أريد، أريد حياةً قصيرةً جدًّا، لكنها ثرية وعريضة جدًّا.
المضي في الحياة بالنسبة لي يشبه التاكسي الذي استقللته للمضي إلى المنزل، لا أرتاح في جلوسي فيه حيث قرر السائق وضع ركاب سواي في سيارته، ومن ثم قرر تشغيل الموسيقى المفضلة له، والتي لا أحبذها، لا يمكنني أن أطلب منه أن يوقف الموسيقى.. العربة عربته وأنا مجرد راكب، والركاب مزعجون والتعامل معهم صعبٌ للغاية، لكن أملًا في صدري لا يهدأ يخبرني أنه في الطريق سيصل الراكب الذي لا أحبه لمحطته ويغادرني، ويأتي واحدٌ سواه يهون الطريق الطويل، وسنفنى جميعًا في نهاية اليوم، وتبقى العربة وصاحبها، الركاب هم الأشياء التي أصادفها دون أن أختارها أو أخترتها ولا يمكنني الفكاك منها، وأنا الراكب الذي لا تعجبه الموسيقى ولا الركاب ولا طول الطريق، ولكن لا أملك سوى أن أخضع لإرادة السائق الذي لا أسميه رهبة تارةً ومحبة تارةً.
ماذا عن النزول قبل أن أصل؟ هذه مجازفة كبيرة توجب لعنات وسخط السائق وهي غير منطقية كذلك، حتى لو مللت الجلوس في هذه العربة بالخيارات المتاحة هنا.. أوسع من تلك التي يمكنني فعلها لو غادرت قبل أن أصل إلى المحطة التي يعلم السائق جيدًا أنها الأخيرة.
ينبغي أن أجيد التعامل مع السائق، سيكون الرفيق الأوحد في هذه الرحلة، سيأتي أناس ويمضي آخرون وسيبقى وحده لا يفارق ولا يمضي، يسمع ويرى ويعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسه، أطيعه حينًا وأغضبه كثيرًا، وأعود له أكثر فأكثر وكلي يقين أنه لن يرفضني ولن يسأم من تقلبي.
ولذا أريد أن ينتهي هذا الأمر سريعًا، لي نفس جموحة تجعلني أعيش الوقت كله أترقبها متى تسأم ومتى ترغب بالمغادرة، ويقيني أن خمسين أو ستين عامًا أكثر بكثير من أحتملها لا يغادرني، ما الذي يمكنني فعله في كل هذا العمر؟ ألا يكفي ثلاثون نفعل فيها كل ما بخاطرنا؟ لماذا نضيف عليهم الضِّعف؟ سيكون هناك فائض في العمر.. سيكون نصيبه السأم، سأجلس في آخر الوقت أسأل صاحب السيارة ماذا أصنع هنا؟ لقد مللت.. أود النزول، أنا أشعر بذلك حتى قبل أن يمضي نصف الوقت المعتاد إعطاؤه لكل راكب، لكن عنصر المفاجأة لطيف هنا، هذه لعبة! لكنها ليست لعبة جيدة على أية حال، كانت لتكون جيدة لو أنها لا تفضي لشيء لكن وياللأسف إنها تفضي لشيء.
يقيني بأن وقتي سينتهي سريعًا وبأن المالك للعربة طوال الوقت يحقق لي ما أريد، فسيهبني أمنيتي بالعمر القصير العريض، يجعلني أعيش الحياة بإيقاع سريع وفوضوي، وأن كل ما أريده.. أريده الآن أو فليبقى دون أن يأتي إن لم يكن الآن، ولذا تغادرني الأشياء والأشخاص والدوائر وأغادرها وأتقلب من حال لحال، أحاول أن أكون أسرع من حركة العربة وهذا جنون لكنه جنون لطيف يعطي الحياة سعة لفعل كل شيء وأي شيء.
إذا كان بإمكاني أن أفعل الكثير من الأشياء في وقت قصير، فماذا أفعل في ما بقي من العمر؟ ما الذي تجنيه الجدات المسنات سوى الضغط والسكر والأسنان المتساقطة، والنصائح الحكيمة التي ترددها لأولادها وأحفادها ولا يستمع لها أحد؟ ما الجيد في مراقبة العمر الذي مضى وكيف تحول الواحد منا من قوة إلى وهن؟ هل لأجل هذه اللحظة وهذه الحكمة نبقى كل هذا الوقت؟ حسنًا ألا يكفي أن نقر أننا نعرف أن نهايتنا، وهن ونمضي قبل أن نصل الستين؟
قرأت السطور التالية لكاتبٍ ما، ووجدت حياتي بأكملها تمر من أمامي حين قرأت هذه السطور..
ماذا سيحدث لو في ليلة ما أتى الشيطان إلى أقصى لحظاتك الإنفرادية، وقال لك هذه الحياة كما عشتها حتى الآن سوف تعيشها مرارًا وتكرارًا ولن يكون فيها أي شيء جديد؟ كل ألم وكل متعة وكل فكر وكل نفس وكل صغيرة وكبيرة في حياتك ستتكرر بنفس التسلسل، سيتم قلب الساعة الرملية للوجود مرة أخرى و للأبد.. وأنت معها، ماذا ستفعل حينها؟ هل ستطيحها أرضًا أم ربما ترد فقط بأنك عشت لحظات هائلة؟
بعد عمر معين تصبح كل الأشياء تكرارًا، كل التجارب مكررة، لا جديد.. كل الأشخاص مكررين تصير الحياة نمطًا واحدًا، لا تبالغ في فرحتك بالأشياء لأنك تدرك كيف ستنتهي، ولا تبالغ في التوقعات لأنك تعرف أن الأمور ستسير بخلاف ما تريد، وحتى لو صارت كما تريد سينتابك ذلك الإحساس حين الوصول للأشياء، تلك التنهيدة والشعور بكلمة.. وماذا بعد؟ يتردد في ذهنك.. لقد أدركت ما تريد فماذا بعد؟ نعم، عشت لحظات هائلة لكنها لا تعدو كونها لحظات.
بعد عمر معين وحين تصير كل الأمور القادمة تكرارًا للماضية، نبدأ حينها في أمر بائس وهو إعادة تخليق كل المشاعر، إعادة تخليق الدهشة والحب والبراءة والأمل والزج بأنفسنا في طرق جديدة عساها ترجع بعض من حيواتنا الماضية، لكن في النهاية نكتشف أنه لا يمكن إعادة تخليق حتى شعور واحد بعد انتهائه، وتصبح الحياة مضجرة وغير ذات جدوى.. ما المجدي في الاستيقاظ كل يوم لتناول نفس الإفطار للذهاب لنفس العمل ثم العودة مساءً وهكذا؟ وهكذا تمضي الأعمار في شكل واحد لا يتغير، وحتى تغيره يكون مكررًا لا شيء جديد.. تحت الشمس، هذا هو شعار الحياة، كل ما سيحدث قد حدث وكل ما حدث سوف يتكرر، وسوف تموت مللًا مئات المرات قبل أن تموت فعليًّا.
ستكون مفاجأة غير سارّة لو عشت عمرًا طويلًا، سأحزن لذلك.. لن أجلس لأقصّ لأحفادي حكم الحياة؛ لأنهم لن يدركوها حتى يجربوها، ولن أحذرهم ولن أنصحهم، فلا أحد هنا يصدق تجربة غيره، كل واحد منا يود أن يخوض التجربة كاملة ليعرف الجدوى منها وليتعلم، أما تلك النصائح الجاهزة ممن فنى عمره لا أحد يريد سماعها، وهذا شيء قاسٍ للغاية، لذا لا أريده، كل ما أريده أن أكون شهابًا يظهر لثوانٍ يراها هو عمرًا بأكمله ولا تساوي هي شيء من عمر البسيطة، شهاب مضيء يمر سريعًا ويبقى أثره لا يغادرك أبدًا..