مقتل هيباتيا
عربة يجرها أحصنة، تسير ليلًا في صحراء (وادي النطرون) عام – 415 م –
بداخلها فتاة فاتنة الجمال راجحة العقل، وفجأةً يقطع بعض الرهبان طريق العربة ويجبرون أحصنتها على التوقف.. ثم تمتد أياديهم في داخلها لتمسك بالفتاة ثم يجبروها على السير حتى كنيسة قيصرون، ليقوموا بنزع ملابسها ويقوم أحدهم بذبحها، وآخرون ينهالون على جسدها الصغير لتقطيعه إلى قطع صغيرة ثم حرقه… والتُهمة تمسكها بالوثنية ورفض المثول للكنيسة وممارسة الفلسفة التي اعتبروها سحرًا!
كانت هذه أول جريمة ضد العلم، تلك الجريمة لم ولن تكون الأخيرة، إنها حلقة من حلقات مسلسل الإرهاب الفكري، والقتل باسم الله وتحت راية “الدين”.
حلقات بالأغلال كبلت الإنسانية على مر العصور، أولئك الذين تفشوا كسرطان مُميت، وهم ينصبون أنفسهم وكلاء عن الله في أرضه، يعيشون لفرض أفكارهم المريضة ويسعون جاهدين لتوظيف الدين للتحريض على سفك الدماء.
في الوقت الذي كانت فيه “الديانة المسيحية” ترسخ أقدامها في الحكم في القرن الرابع الميلادي لتصبح الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية، كانت هناك فتاة تولد وتكبر وتتعلم على نفقة الدولة في جامعة الأسكندرية القديمة، وتسافر إلى أثينا وإيطاليا من أجل التعلم لتغدو معلمة في الفلسفة والفلك والرياضيات في سن الخامسة والعشرين، يفد إليها طلاب العلم من كل مكان، منهم طلبة مسيحيون وغير مسيحيين؛ لينصتوا وينهلوا من علمها الذي اشتهرت به.
إنها “هيباتيا” التي ولدت في الأسكندرية (مصر) حوالي عام 370م، والتي بدأت التعلم على يد أبيها “ثيون”، فكان أبًا ومعلمًا وصديقًا ورفيقًا في رحلة البحث عن الحقيقة.
لا تتوافر مصادر كثيرة عن أعمالها بسبب حرق الكثير من الكتب والمراجع في هذه الفترة، ولكن المؤكد لنا أنها برعت في شرح الفلسفة في مجالس العلم وتعرف طلابها على رموز الفلسفة أفلاطون وأرسطو من خلالها.
ولكن الفلسفة لم تكن المجال الوحيد الذي برعت فيه؛ فكان لها الفضل -حسب علماء الرياضيات- في ابتكار طريقة جديدة في “القسمة الستينية”
ولم تكتفِ هيباتيا بالفلسفة والرياضيات، بل اهتمت بعلم الفلك واكتشاف النجوم والابراج، وكتبت تفسيرات جديدة لقوانين بطليموس الفلكية وقامت أيضًا بعمل رسومات للأجرام السماوية.
في ذلك الوقت، كانت الكنيسة ترى أن المرأة شيطانة لا تصلح للتعلم، وأن تعليمها سوف يُسبب مفاسد عظيمة لأنها باب الشيطان، ويستشهدون بتأويل في الكتاب المقدس الوارد في كورنثوس الأولى 14: 35، وتيموثاوث الأولى 2: 11
(لستُ آذن للمرأة أن تعلم ولا تتسلط على الرجل، بل تكون في سكوت ولكنها ستخلص بولادة لأولاد ولكن إن كنّ يُردن أن يتعلمن شيئًا، فليسألن رجالهن في البيت).
- ما قل في مفهوم الثقافة والحضارة
- بلطجي العالم: حروب افتعلتها أمريكا فقط لتجارة السلاح، لكن لماذا؟
- جمال حمدان.. الجغرافي الذي فضح أكاذيب إسرائيل
- أوروبا في العصور الوسطى
- قناة السويس تاريخ طويل من معاناة المصريين
موتها الدموي:
لم تخضع “هيباتيا” إلى محاكمة، فقدرتها على النقاش كانت تستفز رجال الكنسية وكانوا يهابونها ويهربون من الجدال معها لقوة حجتها.
عن مشهد الاغتيال كتب د. إمام عبد الفتاح إمام: “اعترضتْ جماعة من رهبان صحراء النطرون، الذين قضوا في الصحراء سنوات طويلة، يصارعون قوى الشر كما يقولون ويديرون معركة صراع باطني ضد شهوات الجسد، اعترضوا عربة هيباتيا بإيعاز من كبيرهم “كيرلس”، فأوقفوها وأنزلوا الفيلسوفة الشابة الجميلة.. ثم جروها إلى كنيسة “قيصرون”، حيث تقدّمت مجموعة من هؤلاء الرهبان، وقاموا بنزع ثيابها حتى تجردت من ملابسها لتصبح عارية. وتقدم “بطرس” قارئ الصلوات في الكنيسة وقام بذبحها وهي عارية! وقد أمسك بها مجموعة من الرهبان؛ ليتمكن قارئ الصلوات من ذبحها، ثم عكف الرهبان -الأتقياء القلب- على تقطيع جسدها مستمتعين بما يفعلون. ثم راحوا يكشطون اللحم عن العظم بمحارٍ حاد الأطراف، ثم أوقدوا نارًا وقذفوا في النار بأعضاء جسدها، وهي ترتعش بالحياة كما يقول الفيلسوف برتراند راسل، حتى تحول الجسد إلى رماد، وهم يتحلقون حوله في مرح وحشي شنيع على حد تعبير ديورانت!”
ويرى د. إمام أنّ الرهبان عجزوا عن قمع شهوات الجسد، ولما كان يصعب الوصول إليه، فإنه يسهل عليهم تمزيقه!
وكانت هذه هي نهاية أول شهيدة علم في التاريخ البشري.
ولنا أن نتساءل: هل نفذ هؤلاء حقًّا تعاليم المسيح، وهو القائل: “لا تقاوموا الشر بالشر بل بالخير، وإذا ما أخطأ إليك أحدٌ سامحه لا سبعًا بل سبعًا x سبعين مرة.”
إن جاز لنا أن نسمي ما قامت به هيباتيا شرًّا!
لم يشفع لها كونها تدافع عن حق أي إنسان في الإيمان بما يشاء، بما فيهم هؤلاء المسيحيون الذين كانوا مضطهدين من قبل! فمن قتلوها اليوم هم أنفسهم من اُضطهدوا من اليهود والرومان، قبل أن يصلوا إلى السلطة والحكم فيقومون بدورهم في اضطهاد الآخرين وقتل كل مخالف لهم!
في النهاية، يثبت لنا التاريخ أن هناك الكثيرات من “هيباتيا” من أمثال: “چان دارك” و”راشيل كوري” وغيرهن، اللاتي لاقيْن ويلاقين هذا المصير على أيدي التطرف، هن دومًا شهيدات الإنسانية، ودومًا في ذاكرتها، ليس لأنهن كنّ ضحايا للتطرف، ولكن لأنهن أضأن العالم بإنسانيتهن السمحة، وعقولهن المتفتحة، ومهما طال الزمن وازداد مد التطرف ستظل المرأة هنا وهناك رمزًا للحرية والإنسانية والتنوير.
المصادر: د. إمام عبد الفتاح إمام /نساء فلاسفة/مكتبة مدبولي 1996