مُعضلة يوثيفرو الأخلاقية | الحصار المُخادع للآمر الإلهي بالأخلاق

Comments 0

أشعل قناديل عقلك لإثبات الوجود النوري ليُطرد عدم الظلام، فالنور وجودي والظلام عدمي، فالعقل نوري إن تركته بسرعته الكبيرة -أعلى سرعة في الكون- دون قيود وحدود وضعية، وإن وضعت فلن يستجيب لك النور، إما تُخمد قناديله، أو تتركه حرًّا طليقًا بسرعته، لا حد بينهما، فلنُدخل كبسولة النور لنخترق حاجز الزمن، لنقف في إحدى المحاكم اليونانية القديمة قبل ما يكثر عن 2000 عام من الآن.


لقد أورد الفليسوف الكلاسيكي اليوناني أفلاطون في إحدى كتبه الحوار الذي دار بين الفليسوف اليوناني سقراط ويوثيفرو، ذلك الحوار الذي دار بعدما تقدم يوثيفرو -الرجل المتدين المؤمن بآلهة الإغريق- إلى العدالة بإحدى المحاكم اليونانية القديمة، وقدم شكوى ضد أبيه لأنه قتل عبدًا، وقد أصر يوثيفرو على مقاضاة أبيه بالرغم من الضغوطات، وعدة المحاولات العائلية بإقناعه أن يتراجع عن الشكوى.

حينها التقى يوثيفرو بالفليسوف سقراط أمام المحكمة مُنتظرًا كلًّا منهما محاكمته في أمر كل منهما، فيوثيفرو يستعد لتأكيد اتهام والده بالقتل، وسقراط يستعد للمدافعة عن نفسه في عدة تهم هي بالتأكيد ستودي به للشنق، تعجب سقراط من فعل يوثيفرو ودار بينهما حوار حول الآلهة والأخلاق، نشأت منه معضلة من أكبر المعضلات الفلسفية الأخلاقية.

بدأ سقراط الحوار سائلًا..
سقراط: ما هو الخير؟
يوثيفرو: هو الأفعال التي تُحبها الآلهة.
سقراط: الآلهة متعددة، فربما تختلف الآلهة ويحب أحدهم فعلًا يكرهه الآخر، فما هو معيار الخير هنا؟
يوثيفرو: إذن، الخير هو الأفعال التي اتفقت عليها جميع الآلهة.

ثم يعود سقراط بأعمق سؤال حواري هُنا ليضع الجميع أمام أضخم مُعضلة أخلاقية..
سقراط: هل يعد الخير خيرًا لأن الآلهة اختارته؟ أم الآلهة اختارته لأنه خير؟

فيما يعني أن:

هل المبادئ الأخلاقية صالحة لكونها إرادة الآلهة؟ أم أنها صالحة في ذاتها لذلك أمرت بها الآلهة؟
هل الدين يتبع الأخلاق؟ أم الاخلاق تتبع الدين؟
هل الخير خير لأن الله يحبه؟ أم أن الله يحبه لأنه خير؟
هل يختار الله ما هو صالح؟ أم أن الله يختاره لأنه صالح؟
هل أمر الله خير فقط لأنه أمر من  الله؟ أم أن الله لا يأمر إلا بكل ما هو خير؟
هل ما يرغبه الله دائمًا صالح لأن الله يرغب ذلك؟ أم أن الله يرغبه لأنه صالح؟
هل الله أمرنا بالأخلاق لأنها جيدة في ذاتها. أم أن أمر الله هو من جعلها جيدة واكتسبت طبيعتها الخيرية؟
هل الله يفعل ما هو عدل؟ أم أن الله فعله عدل؟

كل هذه الأسئلة تدور حول كل ما هو جميل من الأخلاق التي أمرنا الدين بها، كالعدل والوفاء… إلخ.


إن لهذا السؤال الفلسفي صعوبة بالغة لتلفظ له إجابة دون النظر إلى دقته، فإن عجز لسانك عن الإجابة فأنت في وضع سليم وصحيح ودقيق بالمرة.

وقبل أن نستفيض في الإجابات واحتمالات صحتها، دعني أزيدك علمًا أن شعب اليونان القديم كانوا يعبدون الكثير من الآلهة في وقت واحد، وكانت مجموعة من فلاسفة اليونان ساخطة على هذه الآلهة المُصطنعة، وكانوا يؤمنون بوجود قوة واحدة فقط هي الخالقة لهذا الكون، ومن أمثلة هؤلاء الفلاسفة: أكزونوفنس، وسقراط، وأفلاطون، وأرسطو، ومليسوس، ومنيدس، وإكساغورث، وغيرهم.

فإن هذا الحوار وهذه المعضلة كانت قائمة من أرسطو ليوثيفرو على هذه الآلهة الكثيرة المختلفة، ولكن على أي حال فإننا أمام معضلة أمام الأمر الإلهي عامةً أيًّا كانت الديانة طالما كُنت ربانيًّا.

لنعد إلى الاستفاضة في الإجابات على هذا السؤال..

فإن كانت الإجابة: «يُعد الخير خيرًا لأنه خير في ذاته»..

فهذا يعني أن الأخلاق مُستقلة بذاتها ومُنفصلة عن إرادة الإله، ولا يستطيع أن يتحكم فيها ويغيرها، وأن الإله محدود القُدرة ويمتنع عنه صفة (كُلِّيُّ القدرة)، مما ينتج عن ذلك بأن الأخلاق أزلية الوجود أكثر من الإله، والأخلاق تصبح منطقًا علويًّا يخضع له الإله وتخضع له القرارات الإلهية، إذن نحن لسنا بحاجة إلى الإله لمعرفة الأخلاق.

وإن كانت الإجابة: «يعد الخير خيرًا لأن الله أمر به»..

فهذا يعني أن الأخلاق الصالحة والفاسدة أمور اعتباطية تخضع إلى أوامر من الله، وأن ما يأمر به الله فهو صالح. هُنا تُصبح الأخلاق عشوائية تمامًا ليس لها معيار، لكن إن أمرك الله بقتل طفل رضيع، هل ستقتله؟ وهل من الأساس القتل فعل عادي تمامًا لكن عندما يأمرك الله به يُصبح الفعل صالحًا؟ وهذه تأخُذنا بأن العقل لا يتقبل أن يكون القتل شيئًا صالحًا في العامة.

لنسأل سؤالًا جديدًا: هل العقل يعقل كل ما هو صالح وكل ما هو باغض بمفرده؟ أم يحتاج إلى أمر إلهي؟ فإن كان العقل يعقل ويكشف كل ما هو صالح فما له من أوامر إلهية، وكيف سيتقبل العقل أمرًا مثل القتل أو السرقة إذا أمر الإله بهما؟ هذا سيكون أمرًا غير معقول.

وهذا الأمر مُماثل تمامًا لنفي البراهمة للنبوات، فقد قال الشهرستاني: «ألا إن هؤلاء البراهمة انتسبوا إلى رجل منهم يُقال له برهام، قد مهد لهم نفس النبوات أصلًا، وقرر استحالة ذلك في العقول بوجوه، منها أن قال: إن الذي يأتي به الرسل لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون معقولًا، أو أن لا يكون معقولًا، فإن كان معقولًا فقد كفانا العقل التام بإدراكه والوصول إليه، فأي حاجة لنا إلى الرُسل؟! وإن لم يكن معقولًا فلا يكون مقبولًا، إذ قبول ما ليس بمعقول، هو خروج عن حد الإنسانية، ودخول في حد البهيمية».

وهذا هو الأمر أيضًا الذي استند إليه الفليسوف أبو بكر الرازي في طعن النبوة.

ففي حقيقة الأمر أن أي إجابة على السؤال ستضعنا أمام مُعضلة.

لكنني في يوم قد قرأت كتابًا كان موضوعه العام: كيف تسأل السؤال؟ في ظل دراستنا بالمناهج التعليمية في كيف تُجيد الإجابة الصحيحة فعلينا أن نتعلم كيف نُجيد السؤال السليم، حتى لا نقع في إحدى المُغالطات المنطقية، وهو ما وقع فيه سقراط في هذا السؤال.

فقد وقع في مُغالطة جدلية باسم (المأزق المُفتعل) أو (الحصار المُخادع).

ولتبسيط هذه المُغالطة سأفتعل لك مأزقًا وأحصرك.. الحرب القائمة على الإسلام هي حرب ضد الإرهاب، فإما أن تكون ضد الإرهاب أو تكون معه؟
هُنا حُصرت بالخدعة، فإما أن تكون معنا وتكون ضد الإرهاب، أي: ضد الإسلام، أو أن تكون مع الإسلام، أي: مع الإرهاب فنقتلك.

فالإجابتين مأزق، والإجابة هي: أنا لست ضد الإسلام أو مع الارهاب، وإن الإرهاب ليس له علاقة بالإسلام.

بالمثل: سؤال أرسطو ليوثيفرو، إما ذا أو ذاك، ولكن الحقيقة أن الله صالح في ذاته، كُلِّيُّ القدرة، خير مُكتمل، وأن القضية الأخلاقية ليست منفصلة عن الله، وإنما هي انعكاس لكمال الله في ذاته ليست تسبقه ولا تعليه، وإنما صفات الله في ذاته تحدد كل ما هو صالح، فهو الرحيم والعادل والغفار والودود… إلخ، وهي صفات وليست نزوات يأمر بها الله، وإنما هي طبيعة الله.

فالخلاق والصلاح وكل ما هو طيب وجميل ينبُع من ذات الله، فجلالته مصدر الخير والأخلاقيات.

وأن الله جميل في ذاته يُحب الجمال..

فتجملوا..