قصص الأنبياء: بين ما أدركت وما لم أبصر

كانت الحكايات الخيالية وقصص الأنبياء دائمًا رائعة تنقلنا إلى عالم غريب مثير، ما أن تبدأ حتى ترتسم في ذاك الخيال الخصب صورٌ وأصواتٌ تهبط علينا من عالم آخر، كنت أعشقها ملء الفؤاد، ولكنها كانت قاصرة موجزة بشكل أو بآخر -في طريقة السرد- فلِمَ تصور السعي، وما وَعَرَ من الطريق بصورته الحقيقة؛ كان السعي فيها يُمثل سطرًا أو اثنين. لم يجتهد أصحاب تلك الحكايات القصيرة في نقل ما مرت به شخصياتهم الخيالية، حتى أمي عندما كانت تحكي لي قصص الأنبياء كانت تختصر اختصارًا غريبًا في معاناتهم!

ها أنا هناك في تلك الغرفة التي أُعدت حرارتها لتناسب جسدي الضئيل أتوسّد أحضان أمي فتحكي: «ألقى الأخوة يوسف في البئر، ثم جاء بعض المسافرين وروحوا البئر يشربون، فوجدوا يوسف وهكذا أنقذه الله، ثم باعوه لواحد من مصر» فأقاطعها بفضول الأطفال: بلدنا يا أماه؟ تومأ ثم تستكمل: «باعوه بثمن قليل جدًا».

لم تتحدث عن الخوف والرعب عندما تخلّوا عنه وحيدًا في ظلمة بئر بعيد! كم ليلة أمضى وحيدًا خائفًا؟

هل ابتلت ثيابه فأضحى باردًا ينهب برد الشام منه؟

وغير هذا، كيف كان قلبه؟

أتقطّر حزنًا يا أماه مِن فعل مَن يجري في عروقهم دماؤه؟

هل تفطّر صدره من غدر أخوته به؟

 وكيف تحمل فراق أهله وأمه وأخيه!

شروه بثمن بخس! ألم يشفق على نفسه؟ لِمَّ لم تحدثيني عن ألم الوحدة وذل العبودية وقهر الغربة يا أماه؟ كم أمضى عبدًا؟ لِمَّ تحصرين قصته في قول الرجل لامرأته أحسني مثواه؟ هل انتهى الأمر عند ذلك، كيف كان كبير الخدم يعامله؟ وهل أحسن إليه أقرانه من الخدم والعبيد؟

تستكمل بعدها وقد تغض البصر عن امرأة العزيز قليلًا لكيلا ننزعج إن فهمنا، أو لكي لا نضطر إلى أن نفهم أو تضطر هي إلى الشرح.. تختصر الأمر إلى أن يوسف سُجِن ظلمًا، ثم تكمل القصة مرورًا بصاحبي السجن وانتهاءًا إلى حلم العزيز، تصل إلى هنا ثم تقول نستكمل غدًا فلقد تعبت.. ولكن هذه نصف القصة اختصرتها كما يفعل المؤلفون في روايتهم الخيالية!

ألهذا دور في ضعف همننا وثبط عزائمنا وحيودنا عن الطريق كلما عدنا؛ تضمّن حديثكم أن السعى سهل لا نَصَب فيه ولا وبال، وأنه بحال من الأحوال الوصول مضمون مكفول لا مكابدة فيه ولا احتمال، كلهم وصلوا أليس كذلك؟ لم يضل واحـــــد منهم!!

جميلة قصص الطفولة ورائعة هي أسفارنا حين ينقلب سقف غرفتنا الصغيرة رمالًا صفراء أو ناقة تفر إلى الجبل أو حوتًا يلَقم إنسانًا… لكن هل ثمن كل هذا الاسترسال في وصف النعم والملذات والتجنب المُتعمد للآلام -التي حظى بها أصحابها- ندفعه تهوانًا منا وضعفًا واستسلامًا وتخليًا وتخلفًا؟؟

حينها قلب الطفلة لم يفهم القرآن بعد ولم يتبحر فيه ليستشف آلام أصحاب الكهف أو وحدة يونس أو غضب موسى أو قلق إبراهيم.. قلب الطفلة أبصر هناك ولم يدرك، أما الآن فهو ذو مدارك واسعة.. أيقن الحقيقة التي انتصبت أمامه مذ عشرين عامًا: الرسل والأنبياء والمرسلون بشر منهم من عرفناه ومنهم من لم نعرف، ولكن نحن أيضًا بشر؛ نغضب من أخواننا كغضب موسى من هارون، وقد نيأس من الطرق كيونس من قومه وقد لا نيأس كمحمد، نتمنى ما لا يمكننا كأمنية نوح لابنه، ونجزع أحيانًا من العطايا كجزع مريم، نستنكر البُشرى كسارة، وكشعيب يستضعفنا بعض العالمين.

نحن بشر وهم بشر، ولا نعمة منّ الله علينا كتلك، ولا كان للقلب أن يطمئن إلا أن يقرأ: “قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ”، وأن يفهم معاناتهم -عليهم السلام- وهم أصفياؤه وأن يرى النور في ظلمات السجن والفرج في ظلمات ثلاث.

أستدرك لأقول أنه لا بأس إن ضعفت همننا أو أصابنا بعض الفتور، ولا بأس علينا من بعض الخذلان وبعض الدموع ولا خوف إن تألمنا قليلًا أو كثيرًا ولا ضرر إن انقطعت بنا الطرق، ولا عز علينا إن سعينا للكمال ولم نصل، فهذا تخصيص الكمال للذات العُليا.. ليس إدراك الوصول هو ما نريده ولكنه السعى نفسه، فلتكن نيتنا هي السعي حتى ينتهي الطريق، ولينتهي على ما ينتهي الأهم أن يكون الطريق مزروع بالسعي على طوله، وأن تكون هناك نهاية مهما كانت.