الأدب بين قسوة الواقع وسحر الخيال

الأدب عالم لطيف، لم أكن أتوقع أن يكون له هذا البريق وهذا الأثر، عالم آخر وترحال حيث تقيم، ليس فقط إلى عوالم مختلفة في المكان والزمان بل أيضًا في الأنفس والذوات.

يقول علي عزت بيجوفيتش في كتابه هروبي إلى الحرية:

“في الأدب لا تكْمُن عظمة البطل في أهميتة الإجتماعية ولكن في حجم المعضلة الأخلاقية التي يقدمها، فالشخصية تكون عظيمة إذا كانت تقدم الخير والشر في الرواية، بصرف النظر عن منزلتها الإجتماعية أو لقبها أو مكانتها، ولهذا، قد يكون الملك في رواية أو مسرحية شخصية عديمة الأهمية ويكون الخادم بطلًا، لماذا لا يكون الأمر هكذا في الحياة؟”

السبب هو أنه في الكتابة يُدخلنا الكاتب روح البطل وعالمه الجواني، في حين أننا في الحياة الحقيقية نعرف الناس فقط من خلال عالمهم البراني، فقد يكون هناك إنسان بالقرب منَّا لسنوات وقد نظن أننا نعرفه، في حين أن ما نعرفه  في الحقيقة هي الأشياء التي لا تحمل أي قيمة أخلاقية، مثل الاسم والمهنة والوضع المادي والمكانة الاجتماعية إلخ، أما المهم حقًا وما لا يستطيع أحد إلا الكاتب أن يحدّثُنا عنه فيبقى عادة غير معروف لنا.”

ففي سلسلة فانتازيا للكاتب الدكتور أحمد خالد توفيق، عبير بطلة القصة مجرد فتاة عادية، ربما إن رأيتها لن تتمنى أن تكون مكانها، فتاة تتميز بأنها لا تتميز، يقول عنها د/احمد خالد توفيق:

“(عبير عبد الرحمن) شخصية عادية إلى حدٍ غير مسبوق، إلى حدٍ يخطف الأبصار، إنها الشخص الذي نتمنى ألَّا نكونه حين نتحدث عن أنفسنا، الشخص الذي لا يتفوق في الجمال أو القوة أو البراعة أو الذكاء، ثمة أبطال قصص يمتازون بالقوة، ثمة أبطال يمتازون بالذكاء الخارق، ثمة أبطال يمتازون بالحظ العاثر، ثمة أبطال يمتازون بأنهم لا يمتازون بشيء، ويبدو أن عبير من هذه الفئة الأخيرة.”

لا تتميز عبير بشيء لكن في عالمها الخاص تمتلك خيالًا كبيرًا يأخُذُها إلى كل العوالم الممكنة، فتلتقي ديستويفيسكي وتحاور فرويد وتتمشى مع أفلاطون في بُستان مدرسته وتعيش مغامرة مع تشي جيفارا، كل ما تتمنى تبلغة بالخيال وكل ما فاتها لم يفتها بالفعل في خيالاتها وأحلامها الكبيرة.

يأخذنا الأدب من خيال عبير الواسع إلى نظرات تشارلز ديكنز الحالمة حيث الواقع ربما يصير يومًا مكان أفضل، فالطفل المسكين أوليڤر في روايته -أوليڤر تويست- الذي نشأ في ملجأ للأطفال ويتعرض لمعاملة قاسية وحتى الطعام لا يأكل بالقدر الكافي وعبر حبكة متقنة يكتشف أن الفتى الذي كان يُضايقه هو أخوه غير الشقيق وان روزا التي كانت تعطف عليه هي خالته، ويعرف حقيقة أبويه وأنه ليس ابنًا غير شرعيًا.

فبعد سلسلة من المُعاناة المُستمرة والظروف القاسية تتكشف الحقائق لأوليڤر ويحصل في نهاية القصة على حياة سعيدة مع خالته روزا.

في روايته الأمال الكبرى حبكة أكثر اتقانًا، تبدأ القصة بزيارة بيب بطل الرواية لقبر أبويه فيُقابل سجين هارب، يطلب منه السجين أن يُحضر له بعض الطعام ومبرد حديدي ليفُك قيده، وبالفعل يحضر بيب المطلوب بسرقته من بيت أخته التي كان بيب يسكن معها هي وزوجها.

تتتابع الأحداث حيث يحصل بيب على دعوة من الأنسة هافيشام -وهي سيدة غريبة الاطوار ترتدي ثياب عرس بالرغم من كونها امرأة طاعنة في السن- للعب في بيتها، لأن السيدة الغريبة الأطوار قد تبنَّت طفله (استلا) لتسليتها في وحدتها لذا أحضرت بيب ليلعب مع الفتاة المُتبنَّاة مُقابل مبلغ من المال.

كانت أكبر أمنيات بيب أن يعمل صبي حداد في ورشة (جو) زوج أخته، وبالفعل تحقق له ذلك، لكنه لم يشعر بالسعادة فقد شعر من معاملة استلا له أنه من الطبقة العاملة التي لا تُجيد التعامل اللبق مع الغير، لذا أراد أن يُكمل تعليمه ويصبح جنتلمان.

وجاءت الفرصة حين تبرع له أحد المُحسنين بمبلغ من المال ليُسافر إلى لندن ويُكمل تعليمه ويصبح جنتلمان دون أن يُفصح المحسن عن اسمه، فظن طوال الوقت أن السيدة هافيشام هي من أعطته المال.

هل تظن إلى الآن أن هناك رابط بين شخصيات القصة المذكورة؟!

يبدو أنه لا رابط بين هذه سوى بيب، لكن ديكنز يُفاجئنا عن طريق الحبكة المتقنة والتسلسل الدرامي المثير أن السجين الهارب هو من تبرع لبيب بالمال وأنه في الوقت نفسه والد استلا -الفتاة المُتبنَّاة- التي يقع بيب في حبها، فقد اتهمت أم استلا بالقتل لقتلها عشيقة زوجها ودخلت السجن وحكم عليها بالبراءة وعملت عند المحامي الذي ترافع عنها والذي أقنعها أن تعطي ابنتها للسيدة العجوز.

ونكتشف في نهاية القصة أيضًا لم ترتدي السيدة العجوز ثياب العرس رغم سنها الطاعن، فيبدو أن أحدهم قد خدعها بعد أن وعدها بالزواج وهذا المُخادع هو نفسه من أدخل والد استلا إلى السجن وجعله هاربًا طوال حياته.

ليست مميزات الأدب مُقتصرة فقط على الحبكة والدراما ولا حتى الخيال، إنما أيضًا يأخُذك الأدب لعالم آخر في الزمان والمكان فلا يسعك وأنت تقرأ الأدب العالمي إلا أن تتخيل الشوارع القديمة وأحيائها الفقيرة وأحوال ساكنيها.

ولا يسعك وأنت تقرأ الأمال الكبرى إلا أن تتخيل طقوس عيد الميلاد في إنجلترا، بل وحتى تشتم رائحة الفطائر اللذيذة والكعك المُعد خصيصًا لعيد الميلاد.

بالإضافة لعادات الناس اليومية والحرف التي كادت أن تندثر والأسرة التقليدية المُترابطة.

أدب اليوتوبيا وتحرير الانسان من أوهام الواقع

لا تسير الحياة دائمًا بهذه المثالية، ليس بالضرورة أن ينتصر الخير في النهاية ونصل إلى الحياة السعيدة حيث يجتمع شمل العائلة ويلتقي المتحابان، إلخ.

يأخذنا أدب اليوتوبيا إلى عالم أخر تمامًا، منطقة أخرى صادقة ومحبطة للوهلة الأولى، لكن مشاهدها تظل عالقة في الذهن تستحضرها في كل موقف مشابه فتظن الرواية الواقع والواقع هو الرواية.

يقول على عزت بيجوفيتش “إن الشعراء هم جهاز الحس في الجنس البشري، ومن مخاوفهم وشكوكهم نستطيع أن نحكم بأن العالم لا يسير في طريق الانسانية، وإنما في طريق اغتراب الإنسان واستيلاب إنسانيته وكذلك بالنسبة للأدب.

في رواية 1984 يتحدث جورج أوريل عن نظام شمولي يُملي على الناس ليس فقط أفعالهم وإنما افكارهم.

“الوصايا الدينية تقول (أنت لن)، السوفييت يقولون (أنت سوف) ,نحن نقول(أنت كذا)، كهذا يموت الخونة وهم يفكرون في الأخ الكبير ممتنين له”

أصبحت هذه الرواية دستور للأنظمة الاستبدادية وخير وصف لأثر هذه الأنظمة على روح الانسان، وتحققت بالفعل من الرواية نبوءات كثيرة.

فمع التطور التكنولوجي يشعر المرء أنه مراقب، ليس من الأنظمة الشمولية وحسب وإنما من الشركات الكبرى التي توظف بياناتك لتحقيق المزيد من الربح.

ليست نهاية رواية 1948 بالنهاية السعيدة، لكنها صادقة بالدرجة التي تجعلك لن تنساها أبدًا.

رواية عالم جديد شجاع: هل يختار الانسان الرفاهية على حساب إنسانيته؟

تمتلأ هذه الرواية بالدلالات الكبيرة والتي لن يتسع الوقت لذكرها هنا، لكن ينبغي أن يقرأها المرء فتترك في نفسه أثرًا كبيرًا وتصورات عن الواقع الذي نعيشه في عصر الرأسمالية والاستهلاك.

ختامًا

أغلب الروايات التي تم ذكرها ستجدها إما في “سلسلة روايات عالمية للجيب” أو “سلسلة روائع الأدب العالمي للناشئين” الصادرة عن مكتبة الاسرة.

وهما سلسلتان مُميزتان للغاية وكل أعمالها قيمة جدًا، وتتناول أعمال لعمالقة الأدب الغربي مثل ديستويفسكي، شكسبير، فيكتور هوجو وتشارلز ديكنز، وتتميز بالحجم الصغير، يمكنك أخذها معك إلى أي مكان وقراءة أكثر من واحدة في اليوم، وجميع عناوينها تستحق الاقتناء.