عاوزة شاورما يا إبراهيم

أشعر بالضيق، فأفكر فورًا في أنَّ تناول وجبة لذيذة هو الشيء الوحيد القادر على تعديل مزاجي، حقًّا ما هو الأفضل من هذا؟ أنا أحب الطعام كثيرًا، لكن ليس أنا فقط، أمر مثير للاهتمام، فالكثيرون أيضًا يحبون الطعام وينشرون صورًا “لذيذة” لوجباتهم المفضلة، فهل الطعام حقًّا يحَسن حالتنا المزاجية؟ وهل علاقتنا به أكثر من مجرد مصدر للطاقة؟

  • في هذا المقال سنحاول الإجابة عن هذا السؤال وبعض الأسئلة المتعلقة به أيضًا…

كيف بدأ الأكل؟


يحتاج البشر لتناول الطعام للحصول على الطاقة الكافية لبقائهم على قيد الحياة على الأقل، وللقيام بمختلف الأنشطة، لكن طريقة تناوله لم تكن دومًا كما نعرفها. كان أسلافنا يحصلون على الطعام بطريقتين، الصيد وجمع الثمار، وحتى ٤٠٠ ألف سنة قبل الميلاد لم يعرفوا الطهي، ببساطة لأنهم لم يكتشفوا النار حتى ذلك التاريخ، وحينها بدأ فصلٌ جديد في علاقتنا مع الطعام، فالطعام المطهوُّ ألذ طعمًا وأكثر فائدة وآمَن من الطعام النيِّئ “خاصة اللحوم”.

شكَّل انتقال البشر من الكهوف والجبال إلى السهول نقلة ضخمة في تاريخهم أدت لظهور الحضارة بشكلها الحالي، وعماد هذا التغيير هو الزراعة بلا منازع. اكتشف الإنسان الزراعة واشتغل بها، ومثلما أثر هذا في بنية المجتمع البشري وثقافته، كان له أثره على نظامه الغذائي أيضًا، الحصول على الطعام صار أسهلَ وأقل خطورة، فالثمار متوفرة، والحيوانات التي كان يصطادها استأنسها، وصارت في متناول يده لمعاونته في الزراعة أو استخدامها مصدرًا غير مباشر للغذاء -مثل الحصول على اللبن والبيض- أو حتى ذبحها مباشرةً.

يشبه هذا ما نتناوله اليوم، أليس كذلك؟ بلى، لكن تنقصه بعض الإضافات الأخيرة، مكون ربما هو الأهم اليوم في جميع الوجبات بل ربما لا تتناول طعامك إذا خلا الطبق منه، إنه الملح.

نعم، فبالرغم من انتشاره اليوم، إلا أن “كلوريد الصوديوم” أو ملح الطعام لم يستخدم حتى العام ٢٧٠٠ قبل الميلاد في بلاد الصين، ومناطق قليلة فقط هي التي عرفته واشتهرت بتصنيعه واستخدامه، مثل مصر وخاصة منطقة وادي النطرون، التي اكتسب ملحها شهرة عالمية آنذاك وسمي بملح النطرون، وظل الملح مع هذا سلعة نادرة حتى العصور الوسطى، بل تذهب بعض التفسيرات غير الموثقة أن لفظة salary الإنجليزية مشتقة من كلمة ملح “salis” باللاتينية حيث كان الجند يتقاضون رواتبهم بالملح أحيانًا!    

ربما الطبق ينقصه شيء ما؟ أنت محق إنه قرين الملح، الفلفل الأسود.

ظهرت التوابل لأول مرة عام ٢٠٠٠ قبل الميلاد وتركزت -كما لا بد أنك توقعت- في الهند، وكان أشهر هذه التوابل هما الفلفل الأسود والقرفة. ومثلما كان للمصريين القدماء السبق في صناعة واستخدام الملح فقد كان لهم تاريخٌ طويل مع التوابل والتي استخدموها في التحنيط. وبشكل أساسي كان استخدام التوابل والأعشاب المنكهة للعلاج والتداوي، وبصورة أقل للطعام. ومع حركة الكشوف الجغرافية لاستكشاف العالم، أو استعماره أيهما يحدث أولًا، وصل المستكشفون لمخزن العالم من التوابل، الهند. وكانت التوابل لندرتها وجِدَّتها، تُعامل كالأحجار الكريمة، وكان امتلاكك لبعض حبوب الفلفل أو أعواد القرفة دليلًا على ثرائك ونفوذك، بل أن حربًا شهيرة قامت بين البلدان الأوروبية واستمرت لمئتي عام وسميت بحرب التوابل، وكان هدفها السيطرة على توابل الجزر الإندونيسية التابعة للهند.

لماذا نأكل؟


تبدو الإجابة بسيطة، لأننا جائعون، أو للحصول على الطاقة كما سبق واتفقنا، لكن ألا يحدث أننا نأكل ونحن لا نشعر بالجوع؟ أو أن هناك أطعمة ذات قيمة غذائية منخفضة وغير صحية نحبها جميعًا ونتناولها باستمرار؟ فلماذا؟!

للإجابة على هذا السؤال، يمدنا علم الأعصاب بالمساعدة. نحن نأكل استجابة لشعورنا بالجوع، لكن اختيارنا لما سنأكله لا يتعلق بالضرورة بقيمته الغذائية، ولكن بالشعور بالرضا بعد تناوله. علميًّا فإن أي طعام تتناوله سيحفز الشعور بالمكافأة ويزيد من إفراز الدوبامين، لكن كلما زادت نسبة السكر والدهون بالطعام كلما ازداد هذا الشعور، ولذلك نلجأ للأطعمة السريعة والحلوى عند الشعور بالضيق، وإحساسك بأنك تتحسن بعد تناول طعامك المفضل ليس مبالغة لكنها هبة الدوبامين.

الريچيم لأجل الاكتئاب


إذا كان تناول السكريات والدهون بكميات كبيرة يساعد على تحسن الحالة المزاجية، فهل يمكننا الاستعانة بنظام غذائي قوامه الشيكولاتة والدجاج المقلي للتغلب على الاكتئاب مثلًا؟

في الواقع، ليس هذا صحيحًا أيضًا، فالنظام الغذائي المتوازن هو وحده الذي سيساعدك على تحسين مشاعرك وربما الوقاية من الاكتئاب، وكثيرًا ما ينصح الأطباء النفسيون مرضاهم بالاعتدال في تناول الطعام وعادةً ما يكون لهذا أثر كبير يعادل العلاج بالأدوية. وتعد (حمية البحر المتوسط) هي أفضل الأنظمة الغذائية وتتضمن الأسماك والفواكه والخضروات والحبوب الكاملة ومنتجات الألبان، ويمكنك القول أن تناولك لهذه الأطعمة بنسب متوازنة هو أول طريق السعادة.

العين تأكل أولًا


هل وبختك والدتك من قبل لأنك لم ترتب المائدة بشكلٍ لائق؟ أو اشتكت من غياب الخضروات أو انعدام التناسق بين أصناف الطعام مرددة المثل الشعبي “العين تأكل قبل الفم”؟ أتعجبك رؤية هذه الباقة المميزة وتود لو أنها بين يديك الآن؟

حسنًا، لقد أصاب المثل الحقيقة، وما أثبتته دراسات علم الأعصاب والرنين المغناطيسي الوظيفي “fMRI” فتناول الطعام ليس عملية يقوم بها الفم ويدعمه باقي الجهاز الهضمي فقط، ولكنها عملية معقدة تبدأ بمجرد رؤيتك لما ستأكله، وتشترك حواس البصر والشم واللمس والتذوق في هذه
العملية، وتعتمد بأقل نسبة على التذوق وحلماته باللسان.
 
يعد البصر هو العامل الحاسم والأهم في معالجة الطعام، ففي عام ١٩٨٠ نشرت تجربة في مجلة “Journal of Food Science”، تلاعب فيها الباحثون بحواس المشاركين فقدموا لهم أكوابًا من عصير الكرز وعصير البرتقال في حين كانت إضاءة الغرفة باللون الأحمر، وقد ارتدى المشاركون نظاراتٍ ذات عدسات حمراء أيضًا، وكانت النتائج أن ٧٠٪؜ من المشاركين ميزوا نكهة الكرز للأكواب المختلفة بينما استطاع ٢٠٪؜ فقط من تمييز نكهة البرتقال.

الذي حدث هنا أن اللون الأحمر أرسل إشارات للمخ تنبههُ أن عصير الكرز في الطريق، مما أثر على استقباله لنكهة البرتقال وتعديله لها بما يتناسب مع معلوماته المسبقة.

لا تدس أنفي في طعامك


طالما تساءلت، لمَ تبدو رائحة الطعام أشهى من مذاقه؟ ربما لأن الرائحة هي ما سيجذبنا لتناوله، هذا صحيح فبمجرد أن تشم طعامًا يمكنك التحقق من صلاحيته للأكل، والروائح الكريهة تعني عادة طعاما فاسدًا أو مسمومًا، لكن ما لا تعلمه أن الرائحة قد تغير تمامًا مذاق ما تأكله؛ ففي تجربة أجراها باحثٌ فرنسي بجامعة ديجون، تناول المشاركون أطعمةً صحية مختلفة بينما تعرضت أنوفهم لروائح مغايرة أقنعت المخ بأنه يتناول الحلوى. وقد تقنعك حاسة الشم أنك جائع أو مستعد لتناول الطعام بينما أنت أكلت لتوِّك، في تجربةٍ أخرى أجراها باحثون من جامعة ييل، خضع المشاركون لفحص رنين مغناطيسي وظيفي بينما يتذوقون قطرات تحمل نكهات مختلفة وفي الآن ذاته توجه أنابيب متصلة بأنوفهم روائح معينة، وباستخدام أشعة الرنين تمكنوا من تحديد المناطق التي تنشط بالمخ في أثناء استقبال الطعام، وبعد أن تناولوا وجبتهم تم تعريضهم لروائح مغرية كالجبن ومخفوق الحليب ووجدوا أن نفس المناطق تنشط ثانية.

أنت تأكل بيديك حرفيًّا

تلعب حاسة اللمس دورًا هامًا أيضًا في تذوق الطعام، وهي قادرة على إخبار المخ بما يتوقع تذوقه بل وتحديد نسبة المكافأة التي سيحصل عليها، قارن مثلًا شعورك وأنت تتناول قطعة بيتزا ساخنة، أو قطعة باردة متبقية من الأمس، تعمل الحرارة هنا كمقياس لمدى جودة الطعام ومدى مناسبته لاحتياجات جسدك فأنت على الأرجح ستفضل تناول الفاكهة باردة في هذا الجو.

لماذا تحب الشاورما؟


منذ بدء توافد إخواننا السوريين إلى مصر وتزايد مطاعمهم التي تقدم ما لذ وطاب، وأصبحت الشاورما هي الوجبة المفضلة لكثيرين، وربما تكون هي الطعام الذي تفكر به عندما تشعر بالضيق، والهدية التي ينتظرها أصدقاؤك بديلًا عن باقات الورد أو الشيكولاتة التقليدية. فما السبب يا ترى؟ يمكننا حل اللغز اعتمادًا على ما ذكرناه آنفًا، 
يحتوي ساندويتش الشاورما بشكل أساسي على البروتين الحيواني “اللحم أو الدجاج”، والبروتين من الأغذية المفضلة لدى الجسم وكذلك النشويات “الخبز السوري“ التي تتحول في الفم إلى سكريات، والدهون التي ينضج بها الطعام “السمن والزيوت” وكلاهما: السكريات والدهون يحفزان بشكلٍ كبير الشعور بالمكافأة. أما إذا ألقينا نظرة على تذوق الحواس، فتلك الحمرة نتيجة تسخين الخبز تعطي المخ إشارة الانطلاق فالأحمر يعني دومًا أن هذا الطعام صالح للأكل ولذيذ بل ويحوي قدرًا أكبر من الطاقة “calories”، كذلك التعارض اللذيذ بين احمرار الخبز وبياض الثومية وخضرة المخللات أو حتى لونها القرمزي، كل هذه الألوان تجعل المخ يرى الطعام أشهى ممَّ هو عليه، ولا بد أنك ستتناول وجبتك ساخنة وحينها فإن حرارة الخبز ومحتوياته مع تصاعد رائحتهما، سيخبران المخ تحديدًا بم سيشعر، وفي النهاية يقوم اللسان بالدور الأبسط وهو التذوق الفعلي، ومن بين المذاقات الخمسة سيجد المالح في الخبز والبروتين والمخلل، بينما يتقاسم المسكر واللاذع في تناغم مذاق الثومية.

أخيرًا، أقرر الذهاب للمطبخ، متسلحة بتراث الأجداد من تفضيل الألوان الزاهية والروائح المنعشة، ورغبة حديثة في تناول وجبة صحية، تمتد يدي لأصبع موز ناعم الملمس، تشي صفرته المعتدلة ورائحته الزكية بأنه ناضج بالضبط، ومهلًا، من أحضر هذه البيتزا؟