عن علاقة أبلة فاهيتا بألبير كاموا

منذ يومان أو أكثر وقع على سمعي خبر من تلك الأخبار التي حقًا تُثير الانتباه، فالخبر ببساطة يتحدث ببساطة عن شاب بسيط وبعد معاناة من الحر القاتل والتعب المُميت صعد في النهاية إلى سطح الهرم واستطاع نزع قطعة الحديد الموجودة أعلى الهرم ثم قام الرجل بإلقاء الحجارة على الزائرين وبالطبع انهالت التعليقات علي الولد وانصبّت عليه العديد والعديد من الاتهامات بالأمراض النفسية المختلفة ولم يُمهل أحدهم من وقته لحظة للتفكير في ماهية القيام بهذا الفعل العبثي، وهل إقدام الشاب على هذا الفعل بإلقاء الحجارة على المجتمع المنصب تحته هو صرخة يستطيع الشاب من خلالها إعلان رفضه التام للخضوع لهذا المجتمع العبثي؟ أم هو مجرد انتحار؟

وتذكرت أنه وفي العام الرابع عشر من بعد الألفان قُدمت للمحاكمة دمية قطنية تُسمَّى بأبلة فاهيتا بتهمة إثارة الرأى العام وبث رسائل مشفرة تدعوا للقيام بعمليات إرهابية، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بالتأكيد، وهاج الإعلام ولم يقعد، وبالطبع لم تكن هيجته على القيام بهذا الفعل العبثي المُمثَّل في مُحاكمة “دميه قماشية” بل كان هياجه حول هؤلاء الأوغاد الذين يدعمونها ويشاهدونها بل ويضحكون علي نكاتها السخيفة، وبالطبع خُصصت عشرات الساعات من أوقات أشهر إعلامينا لمناقشة الأمر في محاولة منهم لفك شفراتها التي سوف تؤدي ببلدنا المستقر إلى الجحيم بل إن بعضً منهم قد شطحَ بخياله إلى ابعد حد ودعى إلى محاكمة كل من شاهد تلك الدمية القذرة.

وتحكي الاسطورة عن شخصٍ يُدعى “سيزيف” -وسيزيف هذا هو الحاكم الشرعي لمدينة إيڤيرا- هذا الرجل الذي كان معروف عن طباعه أنه شخص أمين وقاتل ووغد وناقض للعهود وقد عُرفَ عنه أيضًا بأنه كان يقتل الزائرين فقط ليُشبع رغبته في القتل ولزيادة سيطرته علي البلاد، تلك الأمور التي أغضبت العديد من الآلهه الذين رأوا أنه قد آن أوان الانتقام، وفي إحدى الأيام التي لم يطلع لها نهار استيقظ الرجل من نومه مفزوعًا بعد أن رأي حلمًا كان يُراوضه منذ الطفولة -وبالطبع لن احكي حلم كان الرجل يحلمه منذ الطفولة لأن وقتي لن يسمح بذلك وخاصةً أني اعتبر هذا الأمر من خصوصيات الرجل وليس من حقي التدخل فيها-، وبعد أن استيقظ الرجل من نومته وجلس في شرفته رأي المشهد المسئول مسئولية كامله عن تغيير حياته للأبد، فعن طريق الصدفة وقعت عينه علي “زيوس” وهو يختطف الحورية “إيجينا” إبنه إله النهر “اسوبوس”، وكعادة أي أب حنون لن يهدأ للرجل بالٌ حتي يعثر علي إبنته، وبالفعل صال الرجل وجال في أنحاء العالم إلى أن استدل في نهاية الأمر علي أكثر البشر خداعًا في الكون “سيزيف” وبعد عدة مناقشات ومفاوضات وافق سيزيف علي طلبه في أن يدلُّه علي مكان ابنته وذلك بالطبع بعد أن شقَّ اسوبوس له نهرًا في مدينته.

أغضبت تلك الفعلة الشنعاء زيوس وهنا طلب زيوس من “ثانتوس” إله الموت بأن يُقيد سيزيف في الجحيم ردًا علي إفشاء سره، وبالفعل اختطف ثانتوس سيزيف وقام بتقييده في الجحيم ولكن قام سيزيف الماكر بخداع ثانتوس بأن طلب منه أن يُجرب الأصفاد ثم بحركة خداع قام بتكبيله، واستطاع الهرب من أرض الموتى ليكون سيزيف أول بشري يستطيع الهروب من تلك الأرض الملعونة.

وبتكبيل إله الموت ثانتوس اختفي الموت من العالم مما اثار حفيظة “أريس” إله الحرب الذي فقد متعته في قتل الناس في الحروب كما اعتاد من قبل وقام بفك تكبيل ثانتوس وإعادة سيزيف إلى أرض الموتى مرة أخرى، وللمرة الثانية على التوالي يهرب سيزيف من أرض الموتى بعد أن استعطف “بيرسيفون” حاكمة أرض الموتى وأصبح سيزيف ثاني رجل في العالم يهرب من أرض الموتى بعد سيزيف الذي هرب من قبل، وكما تقول الأسطورة “فالتالته تابته” وأرجوك لا تسرح بخيالك أكثر من ذلك لأني أتحدث عن اسطورة لم تحدث قط.

فبعد عدة ايام استطاع زيوس أن يجلب سيزيف إلى أرض الموتى مرة أخرى ونتيجة لمكرهِ وخداعهِ للآلهة قرر أن يحكم عليه أثر الأحكام عبثية عبر التاريخ، وهو أن يقوم سيزيف برفع صخرةٍ إلى أعلى الجبل لتتدحرج نحو الأسفل كلما اقتربت الصخرة من الوصول للنهاية ليجد سيزيف نقسه مطالب بأن يعود ادراجه كل تلك المسافة ليُعيد الكرة مرة أخري، وتقول الاسطورة ان سيزيف مازال يدحرج الصخرةٍ حتى يومنا هذا.

وبتلك الاسطورة العبثية وبذلك الحكم العبثي قدم لنا الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو فلسفته العبثية التي كانت من المفترض إنها تعبر عن أكثر العصور عبثية عبر التاريخ -أو هذا ما اعتقده كاموا-، ومن كاتب عظيم ممثل في شخصي إلى كاتب أعظم ممثل في هذا الذي يُدعي ألبير كامو، استطيع أن أشعر بمعاناة ألبير كاموا من موقعي هذا (بالطبع لا أتحدث عن المناخ العبثي الذي كان يعيش فيه فإن المناخ الذي كان يعيش فيه الرجل ويعتقد أنه أكثر العصور عبثية يُعتبر الآن من منظورنا نحن أكثر العصور عقلانية) ولكني أشعر بمُعاناته ككاتب، بل إني استطيع أن أرى من موقعي هذا عشرات القصص التي اختارها الرجل لكي تعبر عن مدى عبثية الوضع الذي يعيشه، ولكنه في كل مرة يختار فيها قصة من القصص يشعر بأنها ليست بالقدر العبثي المطلوب للتعبير عن الوضع العبثي الذي يعيشه العالم انذاك، بل وأكاد اُجزم بأن حتى حينما اختار اسطورة سيزيف وهذا الحكم العبثي فقد شعر في بعض الأحيان بأن أكثر الأساطير عبثية عبر التاريخ هي ليست معبرة بالقدر الكافي عن هذا الوضع الذي كان يعيشه.

والمحزن في الأمر حقًا بأن الرجل الذي اعتقد بأنه يعيش في أكثر العوالم عبثية لم يعش حتى يومنا هذا ليرى بأم عينه دميه تحاكم بتهمة الإرهاب أو شاب يستنفذ كل ما يملك من طاقة ليعبر عن إعلان رفضه لهذا المجتمع العبثي.

وبالمُناسبة حينما سُئل ألبير كامو: هل تدعوا فلسفتك للإنتحار؟ رد قائلًا: لا بل إلى الثورة نقطة.