الشعر بين أحضان القدس
ماذا لو أتاني المساء بزمانٍ جديد وكانت قهوتي ممزوجةً بمذاق الشعر العتيق٬ وهبّ النسيم العليل مختلطًا بأصوات الشعراء الفريد… ماذا لو تشابهت ليلتي بالليلة؟ مجنون بني عبس إذ صحب قومًا يرعون الإبل فقام أحدُهم محاولًا إيقاد نارًا، وكانت الرياح عاتية فأخمدَتها٬ فنسج قيسُ الشعرَ معبرًا عن النار المشتعلة في قلبِه من حب ليلى قائلًا:
يا مَوقِدَ النارِ يُذْكيها ويُخمِدُها
قَرُّ الشِتاءِ بِرياحٍ وأَمطارِ
قُم فَاصطَلِ النارَ مِن قَلبي مُضَرَمَةً
فَالشَوقُ يُضرِمُها يا مَوقِدَ النارِ
ليت شعري كيف حالنا إن صَحِبنا شعراء المعلقات أو سمعنا رثاء صخر حيًّا من الخنساء! ماذا لو تلطفنا لجرير على حساب الفرزدق أكُنَّا سننال من الهجاء؟ كيف لو تغزل أبو فراس أو زادنا من الشعر بيت أبي نواس؟! بالله كيف أصبح حسان بعدما قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: “اهجهم وروحُ القدس معك.”
فالشعر يا سيدي بوتق الصدق ورونق الحب وعبير التآخي، عبق التاريخ وجوهر الماضي٬ بابٌ من أبواب الود وبحرٌ خضم من اللغة الفذة، الشعر ألوانٌ وسماء صيد للروح في عتمة الأشياء.. ولا تحسب الشعر أوزانًا وقافية ولا حروفًا على لوح كتبناها٬ ما الشعر إلا دموع القلب من وجعٍ، لمّا اختنقنا بها قهرًا نزفناها.
أردت أن أنسج معك سيدي في بحر تاريخ الشعر لوحاتٍ من الأدبِ، لكن عليلي لا يشفِه سوى القلم، وكم في خاطر التاريخ من قولٍ ومن حدسٍ…
فهناك حيث تقطن أرض الرسالات مجتلى عين موسى ومهوى قلب عيسى ومسرى ومعراج نبينا محمد ـصلى الله عليه وسلم- بها تغنى القاصي والداني، وتألف الشعر كل الشعر في حنينٍ تام لترابها الحاني…
ويذكُرني قول غسان كنفاني في القدس:
“لا شيء، لا شيء أبدًا. كنت أفتش عن فِلَسطين الحقيقية.. فِلَسطين التي هي أكثرُ من ذاكرة، أكثرُ من ريشة طاووس، أكثرُ من ولد، أكثرُ من خرابيش قلمٍ رصاص على جدار السلم.”
والحُسن في القدس أبقى الله فتنتَه يعلوعلى
الحُسن في الدنيا ولا يُعلى عليه، وللقدس تاريخٌ محصنٌ يرويه كل شاعرٍ بما يرى؛ فمنهم
من يصف المعاناة بشيءٍ من الحزن كنزار قباني
حينما قال:
“يا
قدسُ يا منارةَ الشرائع..
يا طفلةً جميلةً محروقةَ الأصابع!”
وحيّا مطران القدس في مطلع قصيدته (تحية للقدس الشريف) قائلًا:
“سلامٌ على القدس الشريف ومن بهِ..
على جامع الأضداد في إرث حبّهِ.”
ويصف الشاعر أمين شنار الحزن الكامن في القدس وصفًا بليغًا جاء فيه:
“هنا المآذن الحزينة التي تسامر النجوم تمتد في وجوم.”
ويستمر سلسال الحزن المهيمن على الشعراء بعد الهزائم المتتالية فيغزل إدمون شحادة قصيدة (مدينة السلام والآلآم).
ويقسم هشام هارون الرشيد بدمائه المقدسية قائلًا:
“أجل، إني من القدس وفيها قد نما غرسي..
دمي هذا الذي يجرى لها متدفق البخسِ.”
وبين هذا وذاك تتعالى كلمات الأخوَان رحباني
بصوت فيروز الصباح العذب الشجيِّ الحاني (لمدينة الصلاة) فتطبع كلماتها في أذهاننا
وتشتعل نيران الشوق في أخلادنا، ويسطع شعاع الأمل من جديد؛ في قولها:
“الغضب الساطع آتٍ.. وأنا كلي إيمان…”
ويزداد جمال صوت فيروزتي المقدس عندما تضرب بكل قوانين السلام ومعاهداته عرضَ الحائط
فتقول:
“الآن..
الآن وليس غدًا.. أجراسُ العودة فلتقرعُ…”
وهيهات من عودةٍ سيدتي فيروز!
أما عن تميم وهو شاعر فحل معاصر ألف قصائدَ عدةً تحكي معاناة شعبه وآماله القادم وكانت من أعظم قصائده في هذا الباب قصيدة (في القدس)
حيث حكى فيها عن مرارة ما يراه العربي الشقيِّ
التعيس في المَنفَى عند زيارةٍ عابرة للقدس ويختمها بقولٍ حزين ممزوج بشيءٍ من الأمل
قائلًا:
“يا
أيها الباكي وراء السور؛ أحمق أنت؟ أجننت؟
لا تبكِ عينك أيها المنسي من متن الكتاب..
لا تبكِ عينك أيها العربي، واعلم أنه في القدس من في القدس، لكن لا أرى في القدس إلا
أنت.”
وجاء الشاعر الفذ محمد جربوعة التميمي ليصف عِزة المقدسين قائلًا:
سبعون عامًا وكأس الذل في يديهم ونحن من عرب لا تشرب الذلَّ
سبعون عامًا وما كَلّت عزائمُنا ولن تكل وأَخزَى الله مَن كَلَّ
ويستمر الشعراء من كل صوبٍ وحدب في التغزل في القدس والحنين إليها والأمل في حريتها كالحلباني وعمر أبو ريشة وإبراهيم طوقان وراشد حسين وكثيرًا غيرهم، وإن رحل عن عالمنا منهم فسيأتي بعدهم من يستكمل بناء مجد الشعر مثلهم…
ولكن يبقى وجه القدس حزينًا… آلام الميلاد
القادم!
وأرى فجرَ القدس سجين… بعد الظلمِ فجرٌ باسم