كوكبٌ وجارة القمر في سمائنا

Comments 0

   السلام النفسي الذي يحدث بسبب الموسيقى مطبوعٌ بقلب الإنسان سجية وطبيعة، الغناء وتمثيل الموسيقى بصوتٍ أقرب للأذن من الآلات يُحدث طربًا من نوعٍ خاص، انتشاء قديم من زمانٍ آخر، سكينة محفوظة إليك وسط نوتة موسيقى ومقامات أصوات.

قد تتعدد الآراء وتتشابك.. تختلف الأذواق، يسود التعصب لرأيٍ ما أحيانًا، فالشخص يصون حق الذي أدخله في عالمٍ جميل بصوتِه، لكن الأصل هو الاستمتاع الكامل بالإبداع، دون أهواءٍ شخصية أو أذواق، فالإبداع يصل للشخص وإن رفض أن يعترف؛ ونحن ها هنا نستوجد كوكبًا شرقيًّا لا يخفى عن الأبصار، وجارة قمر التي وإن خفت القمر محاقًا تبدو هي في كامل الزينة والألق.

نبدأ بالكوكب الشرقي القديم أم كلثوم التي كانت تمتلك في صوتها القوي الحساس الشجي ستة عشر مقامًا، صوتها كان يوازي صوت رجلٍ متوسط الصوت، صوتٌ نسائيٌُّ نادر الحدوث يسمى “كونترالتو” كما سيدة الغناء.

“ثومة” والتي قال عنها موسيقار الأجيال “محمد عبد الوهاب”:

“أم كلثوم هي المغنية الوحيدة التي جمعت بين القوة والعاطفة والحساسية في صوتها، إنها الصوت الوحيد الذي تمرد على ذل الميكرفون.”
كما أثنَى على حكمة القفلة التي هي أصعب اختبار للمطرب.

لكن يوسف السباعي كان له رأيًا مختلفًا قليلًا فقال:

“ي فنانة الشعب التي أعطت فأجزلت العطاء، وقدمت فبذلت بسخاء، ومن خلال صوتها أذابت روحها، ووهبتها لخير وطنها، عاشت عدة أعمارٍ فنية، كانت فيها همزة الوصل بين أجيالٍ وأجيال، إنها نسيجٌ نادرٌ لا يجود به الدهر إلا بعد أجيالٍ وأجيال، وسيبقى فن أم كلثوم تراثًا خالدًا تتغني به الدنيا، وسيظل مَشعلًا هاديًا يضيء طريق الفن العربي.”

بجانب الثناء الجميل المستحق، فيقول: “أنها أذابت روحَها وذلك ظاهرٌ بشدة في آهاتها وآهات جمهورها” ويقول: “أنها عاشت عدة أعمارٍ فنية، فثومة قد بدأت بالغناء حوالي 1916 ولم تنتهِ حتى توفيت في 1975، أي ما يقارب الستين عامًا” وأهم ما قال في ذلك التصريح أنها كانت حلقة الوصل بين تلك الأجيال، ولنتأمل في هذه الكلمات، فإن الفن المصري الغنائي في فترة حكم أبناء محمد علي قد مرت مثلما مرت مصر بكثيرٍ من الصعوبات والإضافات والسلب من الهوية المصرية حتى كادت أن تضيع، ففي فترة حكم الخديوي إسماعيل ظهرت وسط عتمة السيطرة التركية على الموروث المصري ظهرت قصة (ألمظ وعبده الحامولي) حيث كانت ألمظ أول مطربة تظهر في تلك الفترة وتصيبها الشهرة، بعدما امتزجت الموسيقى المصرية البدائية نوعًا ما وقتها مع الموسيقى التركية.

وقبل أم كلثوم كانت هناك منيرة المهدية وسلامة حجازي الذي بدأ المسرح الغنائي المصري، والشيخ أبو العلا محمد الذي أثّر في ثومة كثيرًا، في تلك الفترة لم يكن هناك المشعل الهادي الذي تحدث عنه يوسف السباعي، الذي يحمل الفن المصري بهويته الجديدة، بعدما كان عبارة عن سِيَر تُحكى بالربابة فامتزج بالفن التركي ومستحدثات الإنجليز، وظهور “التخت” بمعنى الفرق الموسيقية الحديثة، فكان المشعل هنا والذي أشعل الشعلة الأولى هو سيد درويش بألحانه السابقة لعصره، وقضيته ضد الاحتلال، والهوية التي طورها، ومن هنا استلمت ثومة المشعل بعد وفاة سيد درويش في 1923، وظلت أكثر من نصف قرن تشدو بصوتِِ جمع بين القوة والعاطفة والحساسية كما وصفه عبد الوهاب، ونبراسًا، وسفينة نوح، حملت الفن إلى عالمٍ جديدٍ ظلت سيدتَه حتى وفاتها وبعدها وإلى ما لا نهاية.

  نأتي الآن إلى جارة القمر، نهاد حداد أو “فيروز” سيدة مطربات لبنان بلا منازع، والتي ينتمي صوتها إلى الفئة “ميزو-سوبرانو” صوت يتميز بالهدوء والسعة، والحنو والرقة، صوت فخم بسيط، في الطبقات العالية تجدها متفوقة حتى على أم كلثوم، فيما تتفوق كوكب الشرق في القرار وانخفاض طبقة الصوت، موهبة خالصة وإحساس خاص وعاطفة ورقة تُذيب القلوب والأجفان.

تميزت فيروز بالانتقال السريع بين الطبقات والمقامات، بسهولةٍ ولطف متناهيين، لا يسبب أيَّ نشاذٍ  لأذن المستمع، حيث قال عبد الوهاب عنها:

“إنها أقدر المطربات في تأدية الأغاني القصيرة، نظرًا لقدرتها على أن تُطرب السامع في أقصر وقتٍ كأنه استمع إليها لساعات.”

وذلك لتربيتها ببيئةٍ لُبنانية مسيحية ترنيمية، وكذلك الألحان الجبلية والشامية الشرقية، واستطاعت بعملِها الدؤوب على صوتِها مزجَ كل تلك المؤثرات في صوتٍ ملائكي يعرف كي يسوق النشوة إليك.

كما قالت عنها مغنية الأوبرا الشهيرة آنا كورسك”

“إن صوت فيروز أجمل صوت سمعته في حياتي،  هو نسيج وحدة الشرق والغرب.”

وهنا يظهر تأثير فيروز في الفن والغناء العربي، فقد كانت فيروز الفنارَ الذي أرشد الفن الغربي إلى الفن الشرقي على ميناء صوتها.

فيما أن ارتباطها بالرحابنة التي كانت موسيقاهم متأثرة بشدة بالفن الغربي وبخاصة الروسي باستخدام الكمان والأكورديون وآلات النفخ، وبعض الألحان المقتبسة أيضًا عن الغربية بلغة ومزيج عربيين، كل ذلك ساهم بنقل الأغنية العربية إلى العالمية.

أما عن دور فيروز في التأثير المباشر بمن تلاها من المطربات والمطربين، فأرى أنها أمٌ لكل الأجيال التي تلتها، من حيث الألحان الحديثة، وقِصر مدة الأغاني، وأكثر الفنانات تماشيًا مع العصر، فلا تقف عند حدٍّ معين من التطور ومواكبة الأحداث، منذ أوائل الخمسينات وحتى 2017 ألبوم “ببالي”، فيروز التي انتقلت من عباءة زوجها وأخيه -عاصي ومنصور الرحباني- إلى عباءة ابنها العبقري زياد الرحباني الذي مزج رقة وعنفوان صوت أمه مع رقة وعنفوان الساكسفون والـ بيس جيتار وانتقلت من مرحلة القِدم إلى أقصى مواطئ الحداثة، وكانت مسرحيات فيروز الغنائية أكبرَ دليلٍ على ذلك الإبداع المفرط من كل النواحي.

“أُم كلثوم” أَم “فيروز” سؤال يجيب عنه الإبداع الخالص الصادر منهما، كلتاهما كانتا نبراستين، وسفينة تحمل الفن العربي إلى أعلى وأبعد، لا مجال للمقارنة فيما توحدت الأسباب والنتائج، واجعل وجودهما ثراءً لا جدالًا.