حياة بين أروقة الحُروف

Comments 0

“دعوة للحياة”

إلىٰ الچالِسون بصمتٍ سيقتُلهُم الملل، إلىٰ مَن يَظنّون أن حياتَهم قد فَرغت مِن كُل شئ بل أنّها اللاشىء، لِـمَن يملؤُهم الشّغف، و تُثير فُضولهم الكلمات، لِـمَن لا تُرضيهم قُشور الحِكايات، و يعشقون السفَر و لا تُهديهم الحياة فُرصها، يُثيرُهم الفُضول دائمًا، أولئك الذين لا يقتنعون بِـسِنِىّ عُمرهم بل أرادوا أن تَطول لأَمدٍ أبعد من ذاك، و الذين يَظنّون أن الأُنس و الرّفقة لا تَكُون إلا بِـصُحبة البشر، و أنّ الحياة لا تسكن الا الانسان و النبات والحيوان، ولا يعرفون أنّ هُناك بُعدٌ رابعٌ تسكُنه ألا و هى” الحُروف….!”

أتيتُكم مِن تِلك البؤرة المُظلِمة التى كان يقف بِها الكثير مِنّا، مِن حيث اللاوعى بأى شىء، اقتصارٌ محدودٌ مِن فِتات ما يُلقىٰ لنا فى كتبٍ دراسيّةٍ شحيحةُ الكلمات والحياة _كانت الحياة لنا فى زمنٍ سابق_ فترةٌ لم نكن نَعى بِها شيئاً، كان العالم بالنسبة إلينا هو تلك المساحة التى نراها من الأرض، و أولئك الناس الذين نتحدّث معهُم، و ما أقساها من مَرحلة( وإن لم نكن نُدرك ذلك)….!

لم تَكُن تلك الصّورة مُتّضحة لأحد، ولكننا فهمناها وأدركنا ذلك الجزء القاتم بِها مع أوّل كِتابٍ لامسته أيدينا لِنقرأه، عندما لامست الكلمات أعييننا، و دغدغت حروفها منطق المعرفة بعقُولِنا، ووضعنا أمام حقيقة أنّنا لا نعرف شىء عن اى شىء، وكأنّنا وُلِدنا الآن، فقط لأننا بدأنا نَقرأ….!

أرى الآن مَن يُحدّقُون بِى ببلاهة أو مَن ينتوون بى شرّا، ويودّون إخبارى ” هل كُل هذا مِن أجل القراءة، او إنّ الأمر لا يستحق كُل تِلك الضّجة…!”

ولكنّى أتقبّل كل هذا فقد كُنت بِصُفوفِكُم يوماً ما، و سأخبركم أنّ الأمر أعظم من كُل هذا وذاك….

فقد كانت ولا زالت القِراءة هى أعظم ما تعلّم الإنسان على مرّ الحُقب الزّمنية، فـهِى مِشكاة النّور لِـمَن أراد أن يرتقى سُلّم الحياة، بل إنها الحياة فى حد ذاتها، كانت هى تلك الأم التى أخذت بأيدينا ووضعتنا على بداية الطريق، طريق كُل شىء، طريق العلم، طريق العمل، وصناعة الحضارات، تفقّه الدين، طريق السّفر السّاكن، وتعدد الحيوات، ومعرفة الذات…

و يكفينا أنّ أول أمرٍ من الله لِـرسولنا الكريم كان “إقرأ”، أرسل بِها چبريل لأشرف الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، كانت المِنهاچ الذى بدأ بِها دينُنا الحنيف، رغم أن النّبى كان أُمّياً، وهذا لأن القراءة قد تكون من كلمات مكتوبة، أو ما يحفظه الإنسان غيباً عن ظهر قلب…

كانت القراءة هى اللبنة الأولىٰ فى البناء الدّعوى، كانت بصيص النور الأول لإخراج الناس من ظلمات الجهل إلى نور الهُدى، كانت دَعوة صريحة لتذوّق حلاوة المعرفة، بل كانت طريق للخيرات و الازدهار و التّقدم….

و لولا تعلم الإنسان للقراءة لما قامت كل تلك العوالم العملاقة من الحضارات المختلفة، فـلمّا كانت القراءة مُرتبطة إرتباطا وثيقاً بالكتابة، حرص القدماء على تعلّمها و تعليمها لذويهم، وها نحن الآن أمام صرحٍ شامخ من الإنجازات التى لا مَثيل لها فى العالم و هى حضارتنا المصرية العريقة، وهذا لأنّهم أدركوا أن القراءة هى الفرق بين المعرفة و الجهل فأبدعوا حتىّٰ تفوّقُوا، بل زادوا عليها، وعلماء العرب خير دَليل، فَـمِنهُم مَن عكفوا على القراءة و الإستزادة حتىٰ إبتكَروا الچديد؛ و كُتبُهم الذى تَهافت عليها القاصى و الدّانى من بقاع الأرض لِـيَقرأوها و يتعلّموا منها فى شتّىٰ المجالات، ومن بعض تلك الكتب “كتاب الجامع لمفردات الأدوية و الأغذية ” لابن البيطار، و” المناظر” لابن الهيثم، وغيرهم الكثير، الذين مازالوا مَنارة للعلم و العلماء، و هذا إن دَلّ فإنّما يدل على أن القراءة لا تَعود على صاحبها إلّا بالنّفع و الخير.

و منها فالقراءة خير وسيلة للتّعلم و أهمها و أسهلها، ولا يحتاج الإنسان لمعونة مَعها فهى وسيلة ذاتية، فنحن نقرأ لنتعلم بجانب أننا نتسلّىٰ ونستمتع أيضاً، لهذا يجب أن نستحضر دائما نية القراءة للحصول على علمٍ نافع سواء دنيويا أو أخرويا، فهو عمل شريف، وكان العلماء يعتبرونه من فضائل الأعمال وأجره عظيم عند الله .

فقد قال ابن عبد الحكم :” كنت عند مالك بن أنس ، أقرأ عليه العلم فدخل وقت الظهر، فجمعت الكتب أصلى (النافلة) ، فقال مالك : يا هذا ما قمت إليه بأفضل مما كُنت فيه إذا صحّت النّية“.

ولا أقول أن الإنسان يُولد قارئا أو مُحبّاً للقراءة، بل إنّها تأتى على مَراحل و يتطوّر عبر الزمن.

و تبدأ رحلتك مع القراءة بالتّحبّب إليها و كسر حاجز الرّهبة بينك وبين صفحات كتابك، إقرأ فيما تُحب لتتشجّع، ولا تجعل عدد صفحاته حاجزًا يمنعك مِن البدء فيه ، فإن كانت عدد الصفحات عائقٌ يستوقف كل مَن يقرأ لما قرأ أحدٌ قط ولا تعلّم، أنت تقرأ لأنّه يجب أن تقرأ، لنفعِك ونفع غيرك..

ومن بعدها تبدأ فى معرفة كيف تقرأ ولا أقصد بالقراءة الهِجاء، بل حُسن إنتقاء ما يقرأ، والبحث عن الجديد، وحتّىٰ و إن خرجت من كتابك لا تفهم بعضا منه، لا تيأس فهذا طبيعى وبالتعود والبحث ستألف أسلوب الكاتب ومنهاجه..

وسيلى ذلك ان شاء الله مرحلة تُحصّل فيها الفائدة مما تقرأ، بل وستتعچب من حالك عندما تجد نفسك قد خصصت للقراءة وقتاً خاصاً بِها “لقد بدأت الآن صُنع التاريخ لنفسك”…!

ولمّا كانت القراءة هى المدخل الأول لكل علم من العلوم، وكل فن من فنون الحياة، وخاصة فن التّعايش مع المجتمع والإندماج فيه، وفهمه حتى يضمن الإنسان لنفسه نوعاً من الراحة فى التعامل، كان ولابد من توجيه أولى إهتماماتنا لها و إنتهاجِها أسلوباً ترتَقى بِها نُفوسُنا، فَكُلّما إستزاد الإنسان مِن علمٍ نافعٍ يقرؤه، كُلمَا إتّضحت أمامه طُرُقاً كانت مُظلمة قَبلاً..

ولأنّ القراءة هى غذاء الروح والعقل، كان لزاما على كُل مِنّا أن يُشچع نفسه وغيره على تبنّى القراءة كرُكنٌ أساسى فى حياته كالطعام و الماء، وكما قال آلبرتو مانغويل :”القراءة ضرورية للحياة كالتنفس”، بل لِزاما على كُل أبّ وأُم تَحبيب أبناءهم فى القراءة و مُتابعتهم و حثّهم عليها وليس فقط مراعاة أجسادهم، فيشُبوا أقوياء بعُقولهم لا بأجسادهم فقط وستُقوّم نُفوسهم أيضاً .

وهذا الموقف مع المأمون عندما رأى أحد أولاده، وبيده دفتر فقال:” ما هذا ..؟ ، قال: بعض ما يشحذ الفطنة و يؤنِس الوِحدة، فقال المأمون: الحمد لله الذى رزقنى ذريّة يرى بعين عقله، أكثر مما يرى بعين جسمه..”.

وقد أُجرى بحث فى الولايات المتحدة الأمريكية عن أكثر خمسين شخصية مؤثرة فى الشعب الأمريكى بغرض الوصول للصّفات المشتركة بينهم وقد خلص البحث لوجود صفة واحدة مشتركة بينهم، وهى أنهم يقرأون خمسين كتابا سنويا، وهذا يُوضّح أن القراءة من أهم مقومات بناء الشخصية الفردية….

وإلى هُنا لا أملُك إلّا أن أسدى نَصيحة_ وإن لم أكن أهلا لإسداء النصائح_ الحُروف حيّة، و الكلمات تتنفّس، فاجعَلوا مِنها مَسكَناً لكُم، رُكنا هادئا تأوى إليه النّفس يوم يُتعبها صخب الحياة، اتخذوا من الكُتب أخِلّاء تُسديكم نُصحاً يوم يضِنُ بها البشر عليكم، وتَكون چناحين تمتطونها للسّفر عبر الأزمان و البلدان فى اليوم الذى تغلو فيه أسعار تذاكر السّفر و تُعجّزكم تكاليفها،  فالكُتب بقراءتها ستفعل، مع ميزة خيالٍ أوسع وإطلاق عنان الأحلام، إقرأوا ليومٍ وددتّم فيه أن تحيوا حياةً لستم تملكُونها، استمتعوا بكل حرفٍ تقرءونه و كأنّه يخُصكُم، حتّى تشعُروا أنكم اكتفيتم و إمتلأ داخلكم بحيواتٍ تمنيتموها يوماً، حتّى ترتضى أنفسكم و تتّعظ…..!

“إبدأوا بِـمَصاحفكُم” فَهو خير الكتاب…

قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}… (الزمر : 23).

وصلت للختام ولا أعلم إن كُنت قد إستطعت مُساعدة أحدهم بعلمى القليل أم لا و لكن أتمنّى…

أنصِتوا لِـهمس الحُروف!