خيار الهجرة ومسئولية الشباب

ربما ننفق كل العمر كي ننقب عن ثغرة!


جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده

ياليت قومى يعلمون

إذا تصفحت القرآن الكريم ستجد في سورة يس تلك الآيات: “وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَن لَّا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ، كان رجلًا يريد لقومه الخير، لم يكن له حول ولا قوة غير أنه دعا قومه حتى النهاية ليتبعوا المرسلين الذين حاولوا هداية الناس لطريق الحق والصلاح دون أن يطلبوا منهم جزاءً ولا شكورًا! كان مصير ذلك الرجل أن قتله قومه لأنهم وجدوا كلماته الوسطية -التي تدعوهم للتفكر والتعايش وتقبل الفكر الجديد الذي يريد تغيير واقعهم- كلمات لا تقع في فخ الاستقطاب المعتادين عليه، هم اعتادوا أن الحياة أبيض وأسود، وأن الحياة إما حق مطلق أو باطل مطلق، وبالطبع فإن مسلماتهم وأفكارهم هى الحق المطلق.

 ليس في ذلك مايدعو للدهشة، أليس كذلك؟ البشر دائمًا ما كانوا يقتلون المرسلين والأنبياء والمجددين، حتى تدرك أجيال ما تالية فضلهم فتعطيهم حقهم عمليًا بتطبيق ما كانوا يحلمون به، بغض النظر عن النتائج التي تتأثر بعوامل كثيرة، لكن المدهش هو رد ذلك الرجل على ربه: ” قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ ۖ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ، إنه لآخر لحظة يفكر في قومه، حتى حينما قتلوه! يريد لهم الخير، يريد لهم الصلاح، يعلم أن دورب الجهل قد تسيطر على عقول البشر كثيرًا، لكنهم يومًا ما سيدركون الحقيقة الغائبة: أنه لا يوجد حق مطلق ولا باطل مطلق، يوجد من يجتهد مخطئًا كان أو مصيبًا، يدرك أن رسالته  في الحياة كانت إعمار الأرض كأبيه آدم، وإعمار الأرض ليس فقط بالبناء والعمران، لكن جزءًا كبيرًا من إعمار الأرض هو عمرانها بالحب والخير وتقبل البشر لبعضهم البعض، وتعايشهم وتعارفهم وتعاونهم، هو رجل جاء قومه (يسعى) فقتلوه، فكوفئ بالجنة، فلماذا ييأس الشباب من السعي؟

الأفغاني ومحمد عبده مثالًا

إن كنت سمعت عن هذين الاسمين، فإنك إما سمعت عنهم كل خير أو العكس تمامًا، فما زال في عالمنا إلى الآن من يعتبر أن هذين الرجلين كانوا يعملون لأجندات غربية أو ماسونية أو غيرها من هذه الأفكار التي صنفتهم هكذا لآرائهم التجديدية في صميم الخطاب الديني، لكن إن تعمقت في فهم حياة الرجلين ستجد أن الأستاذ (الأفغاني) والتلميذ (محمد عبده) كانوا خير مثال لرجل سورة يس في عالمنا الإسلامي والعربي في القرن التاسع عشر، واختلف سعيهم ومنهاجهم مع الوقت حتى تظن أنه لا صلة بينهم!

الأفغاني كان يحلم أن يجعل دولة مسلمة واحدة دولة قوية اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا لتصبح مثالًا للدول الإسلامية الأخرى التي كانت في عصره في مهب الريح، بين خلافة عاجزة ضعيفة في تركيا، وبين استعمار غربي يحتل بلاد المسلمين بلدًا تلو الآخر ويقسمها فيما بينه دون حساب أو قيد، كان يريد أن يجعل تلك الدولة مثالًا ملهمًا لجميع المسلمين شعوبًا وحكامًا، والحلم الآخر: الجامعة الإسلامية، والتي تجمع تحت لوائها تلك الدول الإسلامية متحدة اقتصاديًا وسياسيًا ضد المستعمر الأجنبي وضد الاستبداد الداخلي، كادت تنجح فكرته في أفغانستان حينما تعاون مع حاكمها آنذاك لإنشاء تلك الدولة النموذج، لكن تشاء الأقدار أن تدمر بريطانيا ذلك الحلم الوليد باحتلال أفغانستان، يذهب الأفغاني إلى تركيا حيث مقر خلافة المسلمين ويقول لقومه أنهم يجب أن يتبعوا الحق والصلاح، وأن يعيدوا مجد خلافتهم، فلم تحتمل آذانهم أن تستمع إلى كلماته الجديدة على سمعهم! ونُفي إلى مصر، دخل الأفغاني مصر، وعلى مقاهي مصر التقى بشبابها الذين سمعوا عن الشيخ الوافد الكثير والكثير، وجد آذانًا صاغيةً، وقلوبًا تهفو إلى الحرية والعدل والمساواة، وإلى ديمقراطية تجعل الحكم للأمة وليس لفرد واحد، وعقول تقبل الفكر الجديد بصدر رحب.

وجد الأفغاني أنه قد يستطيع هذه المرة بناء الدولة النموذج من خلال الشعب، وليس الحاكم، بما أن الحكام لا يسمعون ولا يكادون يفقهون قولًا!

شهدت تلك الحقبة -بجهود الأفغاني وتلاميذه الشباب وبجهود آخرين وظروف كثيرة- تكوين أول برلمان مصري، وذلك بعد الضغط على الخديو إسماعيل لأجل ذلك الغرض، كان برلمانًا رأيه إستشاريًا، ثم ما لبث أن استمرت الضغوط حتى أخذ الشعب حقوقه كاملة في برلمان له صلاحيات، لكن الأحداث جرت على غير ما كان يأمل الأفغاني، وعزلت بريطانيا وفرنسا الخديو إسماعيل وولت توفيق، وجرت كما نعلم جميعًا أحداث الثورة العرابية التي انتهت بإحتلال مصر ونفي بعض زعماء الثورة أو هروب بعضهم الآخر، وكانوا جلهم من تلامذة الأفغاني كمحمد عبده وعبد الله النديم.

لم ييأس الأفغاني وذهب إلى فرنسا وأسس مع تلميذه محمد عبده جريدة العروة الوثقى، والتي ظلت منبرًا حرًّا داعمًا للديمقراطية والحرية في مصر، داعمًا للتجديد الديني، داعمًا للتحرر من استبداد الداخل والخارج.

كان الأفغاني ثوريًّا إلى أبعد مدىً رغم كبر سنه، كان ذلك منهجه طيلة حياته وحتى يوم مماته، لكن تلميذه محمد عبده آمن بمرور الوقت أن التعليم والوعي هما الوسيلة الحقيقية لإحداث التغيير المنشود في المجتمع، قد يكون اختلاف المنهج بمرور الوقت قد فارق بين التلميذ وأستاذه فكريًا، فضلًا عن الموت الذي فرَّق بينهما جسديًّا، لكن تظل جهود محمد عبده حينما عاد إلى مصر لإصلاح الأزهر وإصلاح المناهج التعليمية جهودًا مكملة لجهود الأفغاني، فسبب فشل الثورة العرابية كان جهل الناس وقلة تعليمهم وعدم قدرتهم على مواجهة الاستبداد الداخلي والخارجي متحالفين معًا ضد آمالهم وأحلامهم، كان هذا سعيهم، وصدق الله حينما قال لرسوله ولكافة بني الإنسان أن سعيهم سوف يُرى، نرى الآن سعيهم، نقطف زهور أفكارهم، والمطلوب أن يتصل سعي الأولين بالآخرين.

لماذا التخلي عن مسئوليتك ؟

من صوَّر لك يا صديقي أنه لا بد وأن يكون هناك نتيجة واضحة مباشرة لعملك فقد كذبك، فقد يعيش المرء طيلة عمره يسعى، وتستفيد أجيال أخرى من سعيده فتحصده حصدًا، انتشار البكائيات في عالم بائس يرتد عن حقوق الإنسان، مواقع التواصل الاجتماعي وتأثرك بكل هذا الكم من الإحباط، تعجلك النتائج وعدم اكتراثك بأهمية سعيك وأنه سوف يُرى، لكن مشكلتك أنك لم تدرك للحظة أن من سيراه هو الله، ليس بالضرورة أنت أو من حولك!

كل ذلك جعلك يائسًا محبطًا، وقد قررت في أغلب الظن أن تهجر وطنك وشعبك، أو أن تعيش لنفسك وليذهب من رفضوا رسالتك النبيلة سابقًا إلى الجحيم! هذا الجحيم الذي يملؤك ويجعلك غاضبًا منهم لأنهم في نظرك أغبياء لم يدركوا أن رسالتك كانت هدايتهم لطريق الحق والصلاح! لكن الحق أقول لك أن الطريق الوحيد لأداء رسالتك أن تسعى وتحب الناس وتتعلم لتنفع غيرك، أن تربي أبناءك على الحق الذي تجتهد في معرفته قدر اسطاعتك، أن تبذل جزءًا من وقتك لمجتمعك أيًّا كانت النتائج، ولو صعدت روحك إلى السماء قبل الأوان قل لربك: يا ليت قومي يعلمون!

لعل قومك يومًا يعلمون..