الفن بين الميمز والقيمة
“يوشك أن يكون عُمر الفن هو عمر الإنسان.”
أرنست فيشر
لا شك أن الفنون بجميع أنواعها تمثل جانبًا مهمًّا من حياتنا -نحن البشر- وثقافتنا، وتحظى بنوعٍ مكثفٍ من الاهتمام والتشجيع، وإن جاز لنا تقسيم الفنون التي نعنيها كما قسمها (كانط) لثلاثة أنواع رئيسية وهي:
الفن التشكيلي: كالنحت والعمارة.
الفنون التصويرية: كالتصوير المنظوري أو الفوتوغرافي بالمعنى الحديث.
فنون اللعب بالأحاسيس: كالموسيقى والرسم والتلوين أو المسرح والشعر –الأدب- والأوبرا والغناء والرقص. [1]
ونلحظ أنه من أكثر التساؤلات التي دارت في الأذهان وترددت على الألسنة هي.. ما هو الفن؟
ولماذا يمثل قيمة بالنسبة لنا؟
وما الذي يميز الأعمال الفنية work of artالمتمثلة في قصيدةٍ لعُمر الخيام أو مسرحية لشكسبير أو مقطوعة موسيقية لبيتهوڤن أو لوحة لدافينشي أو الكاتدرائية القوطية عن غيرها من الأنشطة البشرية العملية كالبنايات والسيارات والأدوات المنزلية؟
ولأن هذه التساؤلات من قديم العهد، فقد اهتم العديد من ذوي الشأن والتخصص بالإجابة عنها، منهم الفلاسفة وعلماء الاجتماع وعلماء الموسيقى ونقاد الفن ومنظريه [2]، ومن خلال هذه المقالة وما سوف يتبعها سوف نستكشف قضية قيمة الفن وقد نتوصل إلى تعريفٍ للفن، وما الذي يسهم به في الإدراك الإنساني من خلال الخطوط العريضة لأكثر النظريات شيوعًا في فلسفة الفن باعتبارها مدخلًا لعلم الجمـال.
وهذا المدخل قد يجيب عن تساؤلاتٍ أخرى أكثر بساطة..
هل كل ما هو جميل فن؟
أو هل كل ما هو فن جميل؟
وهل كل ما ليس جميل ليس بفن؟
وهل القبح هو نقيض الفن؟ [3]
وقبل أن نمضي قُدُمًا في حديثنا علينا أن نضع جانبًا قناعتنا المُسبَقة التي استقيناها معنا من ميماتنا الثقافية عن الفن، وقد نعني بالميم Meme.. اللفظ الذي استحدثه ريتشارد دوكنز والذي يشير إلى وحدة المعلومات الثقافية التي يمكن نقلها من عقلٍ لآخر، أو الأفكار التي تنتشر سريعًا من شخصٍ لآخر داخل ثقافةٍ ما لنقل ظاهرةٍ معينة، أو قد نشير أيضًا إلى الميم بأنه هذا القالب الساخر الذي نتناول به موضوعاتنا بصورةٍ كوميدية هزلية في وسائل التواصل الاجتماعي.

وفي
رأيي أن أغلب الميمات أو القناعات المسبقة التي نعتنقها، قد جاءتنا من خلال كوميديا الأفلام
بإفيهاتها التي تعلق في ذهن المشاهد وتنتشر بشكل “الكوميكس” أو الميم..
فلو اجتزأنا مشهدَ معرض اللوحات من فيلم
(عريس من جهة أمنية) من سياق الفيلم ككل، سنجد الشخصية التي لا تمتلك خلفيةً عما
يعنيه أو يمثله هذا المعرض تصطدم بأبسط مكوناته حين يأتي الحديث عن الكتلة والفراغ
ويأخذه العجب -وحالُهُ كَحَالِ الكثيرِ منّا- حين ينظر إلى كل هذا البذخ الذي يتم
الجود به من أجل شخابيط معلقة يسمونها لوحاتٍ تساوي آلافًا وربما ملايين وهي في نظرِه بلا قيمة.

وقد استطاع أن يغير موضع إحدى اللوحات بجعلها تدور 180 درجة وعندما جاء الفنان-تجاوزًا- أو القائم بهذا العمل، لم يلحظ أي تغييرٍ، بل أكمل حديثَه متفاخرًا

“كفكرة أخدت مني عشر سنين.. وكتنفيذ خدت يومين بس.”
وهو ما استمر معنا إلى الآن بأن نُقحم أنفسنَا في مجال الفن بلا فهمٍ، ونكون مثل المثال السابق أو الشخصية نفسها في نهاية المشهد.
-دي بقى أنا فهمتها حقيقي فهمتها.
=ايه ده يا بابا دي الباب!

ربما قد اختزلنا كل الفنون والفنانين وكل التيارات والمذاهب في هذا المشهد، وكوّنا صورةً ساذجةً جوفاءَ رأيناها تمثل الواقع وتبرره، وقد تسرب إلى البعض بأن الواقع غير الفن أو ربما ضده، وهي صورة على النقيض، نوع من أنواع الكسل والراحة المضرة بدون إعمال العقل، فأعدى أعداءِ الفكر هو العادة التي نسلم بها بغير نقد، فَـبِقَدرِ ما تغوص أقدامُنا في الوحل وفي الواقع اليومي، يجعلنا الفكر والنقد قادرين على التطلع للنجوم والارتفاع فوق الواقع لنراه في كليتِه.
وقد
يأخذنا نفس المشهد أو نفس الميم لأسئلةٍ أخرى تخاطب فكرًا أثقل..
هل ما في المعرض المذكور فنٌّ؟
وهل هو نوعٌ متطور من الفنون يصعب على أمثالنا فهمُه؟
أو هل تتطور الفنون لتصل بنا إلى هذا الحد من التجريد والرمزية وعدم الفهم؟
أو بالأحرى كيف تتطور الفنون؟
وتأتي إلينا شخصيةٌ أخرى وميم آخر من فيلم (عودة الندلة)، وهي تدندن:
“أحب الحق وأموت في الجمال وساعات أحب الخير.”

عندما كان يحدثها أستاذ الفلسفة عن مباحث الفلسفة، وربما قد قدمت صورةً عن مفهوم إنسان الواقع اليومي المعتاد عن الحق والخير والجمال، تحمل في ثناياها سخريةً وشفقةً على هذا الأستاذ الذي أضاع عمره في اللا شيء، أو قد تحمل تبسيطاتٍ لمعانٍ أكبر ومفهومٍ أوسع بين قولِها وتقديم كتاب الفن لـ (كلايف) بل بقلم د. عادل مصطفى.
“بحب الحق زي عينيا ولما تحصل لي مصيبة أقول.. خير خير، ولما أشوف حد حلو، أقوله إيه الجمال ده كله!”
الجمال هو ظل الله على الخليقة، والنفس تعرف ذلك بالسليقة وتقول “الله” بجميع اللغات كلما صادفت الجمال والروح ترى الحق منعكسًا في الرائعةِ الفنية لانعكاس الشمس على وجه القمر.
وهنا نجد أنه ربما تتوافق نظرة الإنسان العابر للفن مع محتواه وقيمته الحقيقية،
ولكن ليس دائمًا.. فبقدر ما للفن من ارتباطاتٍ بالشخصية الفردية والذاتية للفنان
ولجمهورِه إلا أننا لا نستطيعُ إدراكه كله بديهيًّا.
وأبشع تلك الرؤى أو الميمات التي انتشرت عن الفن -أو كلية الفنون الجميلة- بالخطأ في فيلم (بالألوان الطبيعية)، حين تمثل لدينا الفن في عالمٍ آخر غير عالمنا، عالم ماجن وبذيء غارقٌ في الغثاثة والدمامة إلى الحد الذي يدفعنا للسؤال عن مشروعيته الأخلاقية والدينية! حين كانت تحارِب الشخصية الرئيسية وحدَها، وليس معها إلا موهبتُها الفنية، وكانت أقدام تلك الشخصية تزل بها إلى أوحال العالم القميء حينًا وتنتصر لموهبتها حينًا آخر وتخوض عالمًا من الفوضى…

وربما كان المغزى هو رأي (هربرت ريد) في الفن، بأن الفن هو هروبٌ من الفوضى، وبين تلقائية المادة وفوضاها نبحث عن إيقاع الحياة، أما بالنسبة لمشروعيته فهي كما تم تقديمها في كتاب الفن لـ (كلايف) بل بقلم د. عادل مصطفى.
روى الإمام أبو حامد الغزالي في “الأحياء” عن بعض السلف:
“من لم يحركه
الربيع وأزهاره والعود وأوتاره فهو فاسدُ المزاج ليس له علاج.”
الفن ليس حرامًا ولا جائرًا، الفن لازم، والأمة التي تطرح للنقاش في القرن الحادي والعشرين مسألةَ مشروعية الفن هي أمةٌ محمومةٌ تهذي، ويبقى أن نبين ما هو الفن ولماذا هو لازمٌ لكل إنسان ولكل أمة…”
عن طريق طرح الأسئلة المناسبة والتوصل إلى إجاباتٍ مقنعة بعيدًا عن أن ندمغ ما نقوله بخاتم الثورية والتقدمية بالصياح وإثارة الزوابع، بل بهدوءٍ وأنساقٍ فلسفية وفكرية كي تتضح الصورة…
المصادر:
[1] د.محمد أبو ريان، فلسفة الجمال ونشأة الفنون الجميلة، صفحة 170-182.
[2] جوردن جراهام، فلسفة الفن- مدخل إلى على الجمال، صفحة 5-10
[3] هربرت ريد، معنى الفن، صفحة 11