أيهما جاء أولًا.. الدجاجة أم البيضة؟ | آراءٌ حول التطور.

Comments 0

تجلس في هدوء تام كل ليلة قبل النوم، وتستمع إلى موسيقاك المفضلة، وعندما تدق الثانية عشر، تقفز عشرات الأسئلة إلى رأسك، لا تدري من أين،  ولكن ما تعرفه أنك لا تستطيع الحصول على إجابة لهذا الفيض من الأسئلة، والتي تبدو رغم صعوبتها بسيطة! وقد كانت إحدى أشهر هذه الأسئلة التي تؤرقك هو سؤال “أيهما جاء أولًا البيضة أم الدجاجة؟”، ورغم أن الإجابة تنحصر في اختيارين فقط، فأنت لا تستطيع الثبات على إحداهما، البيضة، لا الدجاجة، لا البيضة، لا الدجاجة، إن كانت الدجاجة فلابد أنها أتت من بيضة، حسنًا هي البيضة، لكن إن كانت البيضة فلابد أن وضعتها دجاجة!

إنها دائرة مغلقة إذًا! لا داعي للحيرة أبدًا فلست أول من تساءل عن ماهية هذا الأمر، فقد شغل هذا البشرية وحير فلاسفة الإغريق والكثير من العلماء حول العالم منذ قديم الأزل، حيث يرجع تاريخ هذا التساؤل إلى مجموعة من المقالات والمناقشات نشرت من قبل المؤرخ اليوناني فلوطرخس Mestrius Plutarchus، والذي ولد عام 46 للميلاد تحت عنوان “أيهما سبق الدجاجة أم البيضة؟”،مشيرًا إلى أن هذه المسألة كانت راسخة بالفعل قائلًا “إن مسألة الدجاجة والبيضة وأي منهما جاء أولًا أدرجت في حديثنا مسألة صعبة تعطي الكثير من المتاعب للمحققين”، كما لمح أن المغزي الأكثر أهمية لللغز هو المتعلق بلغز خلق العالم، ولا يزال العلماء في حيرة حتى القرن الحادي والعشرين، فهل يبدو أننا توصلنا لإجابة؟ هذا ما سنعرفه.

لقد تشكلت لجنة من الخبراء عملت في لندن اشتملت علي فيلسوفًا وعالمًا وراثيًا ومزارع دجاج، وقال عضو في هذا الفريق “إن كانت البيضة جاءت أولًا فهذا يتوقف على طبيعة البيضة، أي أننا سنطلق على البيضة اسم بيضة دجاجة إذا كانت تحتوي على دجاجة بداخلها”، بمعني آخر لو تخيلنا بأن فيلًا وضع بيضة وفقست هذه البيضة وأعطت نعامة سنطلق على البيضة هنا “بيضة نعامة” لأنها كانت تحمل بداخلها نعامة، أي أننا سنطلق على البيضة “بيضة دجاجة” لأنها تحتوي على دجاجة بداخلها وليس لأنها أتت من دجاجة.

مما يقودنا إلى قصة أخرى، وهو أنه أثناء التكاثر أو الاستنساخ، تجتمع المادة الوراثية من كائنين في صورة حمض نووي DNA، ولأن هذا الحمض النووي الناتج يحتوي على نصف المادة الوراثية من أحد الأبوين (الكائنين) والنصف الآخر من الكائن الآخر، لذا فلن يكون هذا الحمض النووي مطابقًا لما اشتق منه، وستحدث تغييرات وراثية بسيطة للكائن الجديد، لكن هذه التغيرات البسيطة على مدار آلاف وآلاف من الأجيال ستؤدي لظهور أنواع جديدة بالتأكيد، وهذه الطفرات الجينية أيضًا لابد أن تحدث في بيضة ملقحة.

لذا فلنفرض أن هناك مخلوقات تشبه الدجاج اللي حد كبير كانت توجد في وقت ما ولنطلق عليها “نموزج مبدأي أو دجاج مبدأي” (Proto-Chicken)، وأن هذه المخلوقات تزاوجت وحدثت طفرة جينية بسيطة (mutation) أدت إلي ظهور أول دجاجة، والتي نمت بدورها في بيضة، ولعلك تتساءل هنا كيف ستؤدي طفرة بسيطة إلى ظهور نوع جديد؟ بالطبع لم يحدث هذا من مرة واحدة فطبقًا لنظرية التطور لداروين، فإنه يحدث تدريجيًا على مر عديد من الأجيال، لذا فإن هذا حدث بعد عدد من التزاوجات والتغييرات الوراثية المتتالية حتى نشأت سمات وراثية وشكلية وسلوكية مختلفة.

سنقف عند هذه النقطة والتي تقودنا إلى أحد احتمالين:


الأول:


أن مخلوقات واضعة للبيض قديمًا أدت تدريجيًا إلى ظهور ما أطلقنا عليه “الدجاج المبدأي” والذي ظل يتزاوج ويتكاثر للعديد من نوعه مع تغييرات بسيطة، إلى أن حدث وأن طفرة أدت إلى ظهور نوع انتقائي جديد، وهو أول دجاجة بدأت بدورها بوضع بيض الدجاج، وفي هذا الاحتمال فالدجاجة جاءت أولًا.

التطور



والثاني:


أن “دجاجة مبدأية” وضعت بيضة تحتوي على دجاجة حقيقية، وهنا سنطلق عليها “بيضة دجاجة” كما ذكرنا سابقًا، وفي هذا الاحتمال فالبيضة جاءت أولاً.


لكن هذا سيعيدنا مرة أخرى إلى التساؤل الأول حول تسمية البيضة بيضة دجاجة أم بيضة هذا الكائن الذي أطلقنا عليه “دجاج مبدأي” أو “نموذج مبدأي” والذي قد يبدو سؤالًا ليس له معنى، لكن بصرف النظر عن ما إذا كانت بيضة دجاجة (تحتوي دجاجة حقيقية) أو بيضة دجاجة مبدأية فأول دجاجة حقيقية جاءت من بيضة، لذا فالبيضة جاءت أولًا.

ظل هذا التفسير سائداً لفترة من الزمن حتى جاء علماء بريطانيون ببحث جديد يقولون فيه أن الدجاجة حتمًا سبقت البيضة، والتي لا يمكن أن تتشكل إلا نتيجة لبروتين يسمى (ov-17) أو (ovocledidin-17) وقد توصل العلماء أيضًا إلى أن هذا البروتين المسئول عن تكوين قشرة البيضة.
يوجد فقط في مبيض الدجاجة، والذي بدونه لا يمكن تصنيع قشرة البيضة حيث يعمل كعامل حفاز (catalyst) يسرع من عملية التبلور (crystallization)، و عملية تشكيل الكالسيت (calcite) من كربونات الكالسيوم والتي تفرز بتركيزات عالية من غدد في جدران رحم الدجاجة.

وبناءً على هذا الاكتشاف الجديد، فلا يمكن ل(بيضة دجاجة) أن تتواجد بغير دجاجة، وقد قال د. كولن فريمان -أحد هؤلاء العلماء من جامعة شيفيلد والذي عمل مع زملائه في جامعة وورويك-:

“لقد اُعتقد منذ فترة طويلة أن البيضة جاءت أولًا، لكن الآن لدينا دليل علمي يبين أن الدجاجة جاءت في المقام الأول، حيث تم اكتشاف هذا البروتين من قبل وربطه بتكوين البيضة بفحصه عن قرب”.

وباستعمال آلة ضخمة تسمي HECTOR توجد في إدنبرج باسكتلندا كانوا قادرين على تفعيل عملية التمعدن الحيوي اللازمة لتشكيل المعادن داخل جسم الإنسان، وتوصلوا في النهاية إلو أن هذا البروتين كان ضروريًا في المراحل الأولية لتشكيل البيضة، كما قال بروفيسور جون هاردينج John Harding -وهو من جامعة شيفلد أيضا- : “إن فهم كيفية صنع الدجاجة للبيض أمر مدهش في حد ذاته، لكنه يمكن أن يقدم أدلة على تصميم مواد جديدة”، لكن كولن فريمان نفسه لا يجد أن هذا الجواب حاسمًا حيث قال: “اعتقد أن مفهوم البيضة جاء إلى الوجود قبل الدجاجة، إنه شيء من عهد الديناصورات أو حتى قبل ذلك!”، وأضاف فريمان قائلًا: “إن المقولة التي يرددها جون هاردينج دائمًا تقول هل نستطيع أن نكون أذكياء كالطحالب؟ ينتجون أصداف رائعة تحميهم في البحر وهذا الشيء لا يمكننا صنعه كبشر في المختبر”، فهل سنستطيع ذلك يومًا ما؟ ربما، وربما أيضًا يأتي أحدهم ببحث جديد يومًا ما، ويضع حدًا فاصلًا وقولًا واحدًا لينهي هذا الجدل حول “هل هي الدجاجة أم البيضة؟” ويظل التقدم العلمي ونتائج الأبحاث في صراع إلى الأبد ترجح كفة بناءً على ما تم التوصل إليه تارة، ثم تنتقل إلى الكفة الأخرى بمجرد ثبوت ما ينفي صحتها، استنادًا إلى أدلة علمية منطقية، وليس إلى رأي فلسفي فقط.