طرزان بن يقظان
أيام حضارة اليونان القديمة، كان شعب اليونان يعبدون آلهةً كثيرة في آنٍ واحد، على سبيل الذكر كان يوجد إله للمطر وإله للرعد وإله للجمال…إلخ، أما معظم فلاسفة اليونان كانوا غير مقتنعين بهذة الآلهة، فعزلوا أنفسهم بعقلهم الخالص وبدأوا يشككون ويطرحون أسئلة فلسفية جوهرها “البحث عن الحقيقة” إلي أن توصلوا بعقولهم إلى أن هذا الكون لابد من وجود مُسبب له واجب الوجود، فيقول الفيلسوف اليوناني (إكزنوفنس) “الشعب هم الذين اخترعوا الآلهة كلا ثم كلا، فلا يوجد غير إلهٍ واحد فقط، وكثير من فلاسفة اليونان كانوا مؤيدين لهذا الرأي مثل إكساغورث الذي احتفظ برشده وسط الترهات ومثل مليسوس ومنيدس، كما أن الفلسفة قديمًا كانت تجمع بين الفلسفة والعلم إلا أنهم انقسموا مؤخرًا فظهر كل منهما كيانًا منفردًا
وعلى الرغم من أن مثلث الفسلفة الأعظم سقراط وأرسطو وأفلاطون كانوا يمثلون جميع طبقات المجتمع إلا أنهم كانوا مجتمعين على رأيٍ واحد ألا وهو أن لهذا الكون مُسببٌ واحد فقط واجب الوجود، فسقراط كان فقيرًا جدًا و أرسطو كان من الطبقة المتوسطة أما أفلاطون فكان غنيًّا جدًا، فهم لم يطمحوا إلى غير توصيل الحقيقة التي دلهم عقلهم عليها بفضل الفلسفة.
أرسطو كان يجتمع بالشباب عند نواصي الشوارع ويدعوهم إلى التحرر من ما عليه شعب اليونان ويدعوهم إلى التفكير بالعقل.
كما أن سقراط قد وقف أمام السوفسطائين الذين يؤمنون بالإدراك الحسي لا بالعقل ووضع نظريةً سُميت بنظرية المعرفة، كانت تهدف إلى أن المعرفة لا تكون إلا بالعقل لا بشيء آخر.
هل تلاحظون أن قديمًا من كان يُفكر بعقله وفلسفته كان يؤمن بوجود إله واحد فقط، أما الذين يقولون أن المعرفة بالإدراك الحسي لا بالعقل كانوا يعارضون فقط لا غير.. أمثال السوفسطائين. أما الآن فالآية انقلبت ومن يدعي العقل يقول أن الله غير موجود وأما كثير من المشايخ والقسيسين عندما يأتي لهم أسئلة وجودية من الشباب يردون بالإدراك الحسي وأن هذا شعور داخلي للشخص، وهذه هي النكبة التي عمت علينا جميعًا وهذا هو وجه الخلاف الذي قام بين الفيلسوف أبو حامد الغزالي وبين الشيوخ، فكثيرٌ منهم كانوا لا يعجبون بطريقة الغزالي لأنه كان يتعمق في الفلسفة عند الرد على الأسئلة الوجودية على عكس هؤلاء الشيوخ فهم لا يحبون الفلسفة ويدعون أنها ضرر على الأديان وما هي بذلك، حتى جاء شبابنا اليوم بما يراودهم بأسئلتهم الوجودية الفلسفية فلم يلقوا من معظم الشيوخ الجواب الذي يقنعهم على عكس الفترة التي كان فيها الغزالي فكانت هذه العُهدة أقل فترة يُشكك فيها الإنسان ويخرج عن الأديان لأن الغزالي كان حُجة الاسلام بعد أن كان هو نفسه شابًا مُشككًا في كل ما هو حوله إلا أنه آمن بفضل الفلسفة. حتى أن الدكتور ذكي نجيب محمود في مقدمة رسالة دكتوراتِه عن الإيمان كتب.. “أيها الغزالي أعتذر إليك اليوم، فأحيانًا ما تكون الشهرة على أكتاف العُظماء”. كما أن الغزالي قد قدم مفهومًا عن الزمن والمكان قبل مجيء أينشتاين.
فإن الفلاسفة المُسلمين كانوا عُظماء حقًا ونُقل عنهم الكثير، فرينيه ديكارت وكانط وغيرهم كانوا يعجبهم آراء الفلاسفة المُسلمين.
فالفارابي وضع برهانًا قويًا للوجود أقره وأعجب به الفليسوف لايبنز بعد 700 عام منه، كان هذا البُرهان يقول أن الوجود له نوعان (ممكن الوجود) و(واجب الوجود)، فـ واجب الوجود إذا فُرض عنه أنه غير موجود فيستحيل عنه المحال لأنه لابد وأن يكون موجودًا إضافةً على ذلك فطالما هو واجب الوجود فلا يُسأل مَن الذي وجده!
أما ممكن الوجود إذا فُرض أنه غير موجود، فلم يستحيل عنه المحال لأنه من الممكن أن يكون موجودًا أو غيرَ موجود، ولابد أن ينتهي بواجد… هذا الواجد هو واجب الوجود.
فسارت الفلاسفة على هذا العقل الخالص المُتحرر حتى عام 428 هـ.
كُتبت إحدى الروائع الأدبية في هذا العام بقلم الطبيب والفيلسوف المُسلم العبقري أبي علي الحسين بن عبد الله (ابن سينا) وهو في سجنه، كانت هذه التحفة الأدبية بعنوان قصة “حي بن يقظان”
ظلت سنين كثيرة حتى اُعيدت كتابتها في الأدب العربي الأندلسي في الفكر الإسلامي عام 581 هـ على هيئة رواية كاملة بدلًا من أن كانت قصة قصيرة بنفس اسمها “حي بن يقظان” بيد العالم و الفيلسوف والمفكر المُسلم (محمد بن عبدالملك بن طفيل)
نالت رواية “حي بن يقظان” الاهتمامَ الشرقي والغربي، وصُنفت كأعظم قصة رمزية فلسفية في هذا التوقيت، كما تُرجمت إلى الكثير من اللغات الأجنبية مثل الإنجليزية واللاتينية والعبرية وغيرهم، فكانت أفضل قصة عرفتها القرون الوسطى..
- تركز قصة “حي بن يقظان” على نقاط فلسفية هامة عن الوجود وعن الخالق، تقوم على أساس مهم وهو تلاقي العقل الخالص المتحرر من آراء البشر مع الوحي، تُذهبك بعيدًا عن البشر حتى لا تتأثر بآرائهم حتى لو كانت هذه الآراء لأناس أشرار أو غير ربانيين أو حتى لو كان هذا الرأي والكلام لنبيٍّ من الأنبياء… فأنت في هذة القصة بعيدًا عن الجميع، تحركك غريزتك ويحركك العقل للوصول لأسئلة وجودية تؤرق الإنسان كما أرقت فلاسفة اليونان قديمًا، تدور قصة “حي بن يقظان” حول طفل يُسمي حي، تنوع ابن سينا وابن طفيل عن ولادة حي بن يقظان، حيث أن ابن سينا قال أنه طفل حديث الولادة لأم وأب، تركته أمه في صندوق في البحر فتقاذفته الأمواج حتى استقر على شاطئ لجزيرة لم يوجد عليها إلا حيوانات، أما ابن طفيل فطرح مثالين عن حي بن يقظان، فقد كتب أن حي نتج نتيجة تكون مواد عضوية في المياه فكونت حي بن يقظان على شاطئ الجزيرة، وهذا يأخذنا إلى نظرية التطور لدارون التي طرحها ابن طفيل قبل دارون بسنين عدة مما يأخذنا لضرورة التثقف في تراثنا.. أرضعت ظبية حي بن يقظان وعاش منفردًا في الجزيرة وسط الحيوانات الأليفة والمُفترسة، حتى ماتت الظبية في يوم فهرع إليها حي بن يقظان يقلبها يمينًا ويسارًا فاستغرب حالتها وعدم تفاعلها معه، فجاء بصخرة حادة وشق صدرها واتطلع على قلبها وتوصل حي من خلال الحواس والتجربة بأن هناك شيئًا أسمى من الجسد وهو الروح، ثم اكتشف النار بعد ذلك، ثم تصفح أجسام الحيوانات والموجودات على الجزيرة واكتشف تشابه الحيوانات في المادة لكنهم يختلفون في الصورة واكتشف بأن هناك مُسبب لكل هذا، ثم اكتشف الفضاء وما يسبح فيه، فأيقن بأن الكون قديم النشأة، كما أن النفس منفصلة عن الجسد فكانت مُحصلة حي بن يقظان أنه توصل عن طريق المعرفة الغنوصية لحقائق الكون كما توصل إليها باقي البشر عن طريق المعرفة الرسالية عن طرق النبوءة للأنبياء والرُسل.
فالمعرفة الغنوصية لحي بن يقظان كانت عن طريق التقاء الروح مع النفس فاستشرق الحقائق دون تدخل أو دعم خارجي من أحد. وهذا ما تركه لنا التراس السكندري –أن الإنسان قادرٌ على إدراك الحقائق العلوية بمفرده.
وعندما انتقل حي بن يقظان من الجزيرة إلى بلدة بها أناس عن طريق شخص يدعى أبسال، فلاحظ أن معتقداته التي كونها بمفرده عن طريق المعرفة الغنوصية هي نفس معتقدات أهل البلدة التي جاءتهم عن طريق الرسالية بفضل الوحي الذي نزل على الأنبياء بعد أن تعلم حي بن يقظان لغة التواصل مع الناس.
فحي بن يقظان ما هو إلا رمز للعقل البشري، بأنه حي ودائمًا يقظ يقود إلى الخالق، فقصة حي بن يقظان أحدثت ضجة في الوسط العلمي مما جعل الكثير من المفكرين والفلاسفة في الغرب يدرسونها.
فالعقل والنفس إذا تربوا وكبروا بعيدًا عن البشر بدون آراءهم وتأثيراتهم فبدا أنه عقل خالص ونفس سليمة سيُقَادون إلى الصواب بدون وحي أو رسل أو أنبياء، لكن الرسل والرسالية جاءت لتعديل الغنوصية الخاطئة مثل ما فعله فرعون والملك النمرود فذهب إليهم الأنبياء ليعدلوا هذة الغنوصية إن كانت غنوصية من الاساس!
كما أن قصة حي بن يقظان كُتبت سنة 587 هـ على يد شهاب الدين السهروردي بعنوان غريبة الغربية.
ثم آخر من أعاد كتابتها كان ابن النفيس سنة 687 هـ بعنوان (فاضل).
كانت قصة حي بن يقظان ذات تأثير على الأديب الإنجليزي دانييل ديفو سنة 1731 م في كتابته لأول رواية إنجليزية مقتبسة الفكرة من قصة حي بن يقظان بعنوان (روبنسون كروزو) التي ندرسها في قصة مادة الإنجليزي للصف الأول الإعدادي. كما حولت إلى فيلم سينمائي.
عام 1999 أُنتج فيلم ولعبة لشخصية معروفة للجميع وهي شخصية (طرزان)…
فهذا الطرزان هو حي بن يقظان وقد تم استئصالها من تراثنا الإسلامي، مما يدعونا إلى التثقف في تراثنا مما يحتويه من كنوز حقيقية يأخذها ويستخدمها غيرنا! نحن حقًّا نحتاج إلى الرجوع لتراثنا حتى لا نلقي قشورًا من الفلسفة وقشورًا من الدين فيجتمع في عقولنا أنهما ضد بعضهما ويُضرب فكرنا ومعتقداتنا.
في كتاب قصة الإيمان للشيخ ندين الجسر مُفتي طرابلس، كلام من ذهب يقوله الشيخ الفيلسوف أبو النور الموزون للشاب الذي جاء إليه يشكو من ألم الشك في كل شيء ولا يلقى راحة في أجوبة الشيوخ.
فيقول له الشيخ الفيلسوف وهو يبكي بحُرقة
“وارحمتاه لكم يا شباب هذا الجيل، أنتم المُخضرمون بين مدرسة الإيمان عن طريق النقل، وبين مدرسة الإدراك عن طريق العقل، تملكون قشورًا من الدين وقشورًا من الفلسفة، فيقوم في عقولكم أن الفلسفة والدين لا يجتمعان، وما هما بذلك! فالفلسفة هي السبيل إلي الإيمان عن طريق الإيمان”.