ما يحتاجه الفقراء حقًا

وهبنى حُلمًا أنسًا بالليل وحزنًا بالقلب في الصباح، رأيت البُني يَكسوا شوارع قريتي وأنا عائد للمنزل منتصف الليل وحلكة الظلام تسيطر على المشهد إلا بعض البيوت أعلم أهلها بالفقر يجلسون على باب منزلهم وأنوار المنزل مسلطة عليهم، أنظارهم تتعقبني وتتلهف بالنظر إلي، ينتظرون مني السؤال أو تقديم يد العون كي يطعمون بطون أطفالهم، وعدت للمنزل وصدمة المشهد تتملكني  واستيقظت من النوم يتملكني نفس الشعور.

أبوابهم لا تُغلق بالليل، والبعض لا يملك مأوى بالأساس   ينامون كَالأشلاء على الأرصفة يلعقون بؤس الطرقات، فمن كان عادلًا نام كعُمر آمنًا في الطرقات، وأيضًا من كان فقيرًا لا يملك شيئًا يخافُ عليه نام آمنًا وترك الأبواب مفتوحة لأنه يعلم جيدًا  أن من يدخل عليه يخرج منقوص الجيب، ويترك الضوء مُسلطًا عليه وليس تباهيًا بفقره بل كي يشبع أعين الناس من بؤسه.

تملكني مرة بعد مرة حزن كلما تخيلت المشهد، والحزن من نعم الله علينا … أحد دلائل بقاء الإنسانية فينا، أترك نفسي للحزن وسأتركه مقدرًا لفضله عليّ، لأنه الوقت المناسب للتفكير وإعادة النظر في الأمور، يستحق بعض الألم فلكل شيء ثمن، وحزنت وسألت نفسي لماذا لا يسود العدل الكون؟ ولما يزدري البعض الفقراء؟ ولماذا لا تُكرس جهود البعض لهم؟ وهل الجهود أن نعطي الفقراء فائض جيوبنا؟ هل هذا حل المشكلة أم لها أبعاد متباعدة عن الواقع؟

أذكر في الشهور الأولى من عزل الملك فاروق، حينما هبت رياح التغيير على الشوارع المصرية و صوت محمد نجيب يعتلي الراديو وَيَعِد  الفقراء بالأحلام والعدل الاجتماعي والتمرد ضد ظلم الإقطاعين ولم يعطهم فائض الجيب فقط بل خصص لهم قانونًا للإصلاح الزراعي -رغم اعتراض الساسة – ورزق الفقراء بالأراضي وَساواهم بالاقطاعيين  وكسب نجيب السياسة والرأي العام ولكن بالمقابل ضاعت الأراضي والزراعة وتبدد بياض القطن مع الريح.

إنها من الحقائق التي سردها لنا التاريخ كي ننظر بتمعن فيها ونتعلم منها ونتخذ منها العظة لما بعد ولست ألقي الضوء هنا البعد السياسي، إنما المقصد هنا ما يحتاجه الفقراء حقا، وما يجب علينا فعله وما يجب عليهم فعله أيضًا في هذا العالم الذي اتسم بالرأسمالية والركض كل يوم من أجل حفنة من الأموال كل شهر وكلما ازدادت سرعة ركضك ازدادت تلك الحفنة آخر الشهر، وإن كنت بطيئا بلا فائدة  سيحتضن اسمك الممحاة.

المبادرات من الجمعيات الخيرية ومن الأسر الطلابية لمساعدة الفقراء وتقديم يد العون لهم كلها عظيمة، وتزيل بعض من أطنان الهموم في صدور الفقراء، وكلما ازدادت المبادرات قلة المعاناة، ولكنها ليست بالكافية للقضاء على الفقر ويُمكنني القول  بعد أكثر من ثلاثة أعوام من العمل التطوعي الخيري أنه بالأمر الجيد الذي يجب أن نستمر فيه دومًا وننمى منها وندعمها ونزيد من الكتلة البشرية والقدر المالي والدعم القانوني وإتاحة الفرص الكافية لها ولكن يجب ألا ننسى أن الفقر ليس فقرًا للأموال فقط ويجب أن نتعلم الدرس.

الفقر فقر فكر، العقول المُعطلة المصابة بالصدأ التي تملأُ الشارع المصري والأمية في كل مكان وفقر الفكر أكثر ضررًا من فقر الجيب، فَتحت عباءة فقر الجيب خرج عظام نشهد لهم بكل خير وصاروا كتابًا وعلماءًا وفنانين حقيقين كرمهم التاريخ، وفقير الفكر يجب الحذر منه فالجهل خطيئة وما يُعيب الرجل ليس جيبه بل صدأ فكره، وتحت عباءة فقر الفكر خرج  الإرهابيون والظالمون والمتحرشون والمفسدون في الأرض والمشهد الذي رأيناه مؤخرًا في الانتخابات الرئاسية من اندفاع أعداد كبيرة من المصريين لدعم مرشح تبادلوا صرخات الفقر والظلم تحت حكمه، وحينما أتت الانتخابات صار القائد المثالي، وإن تكرر المشهد مرات ومرات سيتكرر نفس الفعل، وشاهدنا أيضًا مهندسين وأطباء أنفقوا آلافًا من جيوبهم مقابل لوحات إعلانية ملأت الشوارع بشكل مزعج ولا يُعقل لِانتخابات محسومة قبل بدايتها، الفقر هنا فقر للوعي السياسي.

“لا تُعطني سمكة بل علمني كيف اصطاد.”

لا تحرم الفقراء من السمكة، أعطها لهم وعلمهم الصيد. ما يحتاجه الفقراء حقًا أن تُطعم العقول مع البطون وأن يُملأ الفكر مع الجيوب، وأن الأموال في يد الجاهل غنيًا كان أو فقير كثمرة الربيع سرعان ما يأتي الخريف وتزول، ومن أجلهم ومن أجل المجتمع كافةً بعد أن نعطيهم الأموال أن نعلمهم ونطهر فكرهم ونمحو أمية الغير متعلم منهم  وَنؤهلهم بشكل كامل للتعامل مع المال، ونعطيهم فرصًا حقيقة للعمل أو نفتتح لهم مشاريع صغيرة تحميهم قبل أن يأتي الخريف.