ما لا تعرفُه عن شاعرِ الرسُول
”اهجوا قريشًا، فإنه أشدُّ عليهِم من رشقٍ بالنبل“..
هكذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لحسان بن ثابت، وهكذا فعل حسان وهكذا أيضًا كان دورُ الشعر دائمًا وأبدًا، له الرأيُ والمقام الرفيع لدى العرب، كيف لا؟ وفيهم نزل القرآن يتحداهم لفصاحتِهم وبديهتهم اللُّغوية.
“حسان بن ثابت”، صحابِي جليل من أنصار المدينة، عاش في أسرةٍ من الوُجَهاء والأشراف، فأبوه كان واحدًا من سادة قريش، كما أنه ينتمي إلى بني النجار، وهم أخوال جد نبي الله عبد المطلب بن هاشم، وُلد سنة ٦٠ قبل الهجرة في المدينة المنورة، وهو من قبيلة الخزرج.
”أَغـــرّ عليه للنبوة خاتم … مـن الله مشهود يلوح ويشهدُ
وضم الإلهُ اسمَ النبيِّ إلى اسمِه … إذا قال في الخمسِ المؤذن: أشهدُ
وشقّ لــه من اسمه ليجلَّه … فـذو العرش محمودٌ وهذا محمدُ
نبيٌّ أتانا بعــد يأسٍ وفترةٍ مــن الرسلِ … والأوثانُ في الأرض تُعبَدُ“.
-من قصيدة لحسان بن ثابت في النبي -صلى الله عليه وسلم-.
الشـِعر.. من جاهلية الأوس والخزرج إلى الإسلام..
لعل الإسلام لم يحرر عقولَ الناس فقط من أوهام الجاهلية والعنصرية، ودعوات التقاتل العِرْقي.. بل امتد تأثيرُه ليحرر ألسنَ الشعراءِ أيضًا.
الأوس والخزرج، قبيلتان مشهورتان بالنزاع في يثرب، أكثر من مائة عامٍ من العداء والحروب.. وقصائد عديدة بين “حسان” و “قيس بن الخطيم” شاعر الأوس.
وهكذا كانت شهرة حسان وقيس في البلاد العربية.. ولكن حسان لم يكتفِ بتلك الشهرة، بل زاد عن ذلك بأن اتصل حسان بالغساسنة؛ يمدحهم بشعره ويتقاسم هو والنابغة الذُّبياني وعلقمة الفحل أعطيات بني غسان. فقد طابت له الحياة في ظل تلك النعمةِ الوارفِ ظلالُها.
ثم اتصل ببلاط الحيرة وعليها النُّعمان بن المُنذر فحل محلَّ النابغة، حين كان هذا الأخيرُ في خلافٍ مع النُّعمان.. إلى أن عاد النابغة إلى ظل أبي قابوس النعمان، فتركه حسان مكرها، وقد أفاد من احتكاكِه بالملوك معرفةً بالشعر المَدْحي وأساليبه، ومعرفةً بالشعر الهجائي ومذاهبِه.
ومن شاعرٍ يهجو ويمدح لأجل المال والعطايا، إلى “شَاعرِ الرسُول” -صلى الله عليه وسلم-..
يرد غائلةَ المشركين من الشعراء، ويقاتلهم بلسانِه، إلا أن حسان بن ثابت لم يكن يهجو قريشًا بالكفر وعبادة الأوثان، إنما كان يهجوهم بالأيام التي هُزِموا فيها ويُعيرهم بالمثالب والأنساب، ولو هجاهم بالكفر والشرك ما بلغ منهم مبلغًا.
ولعل هذا الحديث يكفي في شرف حسّان وقيمته عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
عن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “اهجوا قريشًا فإنه أشد عليها من رشقٍ بالنبل”… فأرسل إلى ابن رواحة فقال: اهجُهمْ، فهجاهم، فلم يرضَ.. فأرسل إلى كعب بن مالك ثم أرسل إلى حسان بن ثابت فلما دخل عليه قال حسان: “قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسدِ الضارب بذَنَبه”، ثم أدْلَع لسانَه فجعل يحركه فقال: “والذي بعثك بالحق لَأفْرِيَنَّهُم بلساني فَرْيَ الأَدِيم”، فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: “لا تعجل فإن أبا بكر أعلمُ قريشٍ بأنسابِها وإنّ لي فيهِم نسبًا حتى يلخص لك نسبي”، فأتاه حسان ثم رجع فقال: “يا رسول الله، قد لخص لي نسبك والذي بعثك بالحق لَأسُلّنك منهم كما تُسَلُّ الشعرةُ من العجين”، قالت عائشة: “فسمعت رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لحسان: إن روحَ القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله”، وقالت: سمعت رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “هجاهم حسان فشفى واشتفى”.
”وقال اللهُ قد أرسلْتُ عبدًا … يقول الحقَّ إن نفع البلاءُ
شهدْتُ به فقوموا صدقوه … فقلتم لا نقومُ ولا نشاءُ
وقال الله قد سيرْتُ جُندًا … هم الأنصار عرضتها اللقاءُ
لنا في كل يومٍ من معد … سباب أو قتال أو هجاءُ
فنحكم بالقوافي من هجانا … ونضربُ حين تختلط الدماءُ
ألا أبلغ أبا سفيان عني … مغلغلة فقد برح الخفاءُ
بأن سيوفنا تركتك عبدًا … وعبد الدار سادتها الإماءُ
هجوت مُحمَّدًا وأجبت عنه … وعند الله في ذاك الجزاءُ
أتهجوه ولستَ له بكفءٍ … فشرُّكما لخيرِكما الفداءُ“
-من قصيدة فتح مكّة.