الظلم لا يلبس الأقنعة !

كم مرةٍ وَجدت نفسك تُبرر ظلم لِمجرد أنَّه صدر عن (شخص/ كيان/ حزب تنتمي إليه ) يَشتَرِك مَعك في (الدين/ العرق/ الأيديولوجيا) ؟!

  أكَاد أُجزم بأننا كُلنا فَعلنا ذلك على الأقل مَرة واحدة في حياتنا، فنحن أبنَاء بِيئة خِصبة لأُحادِية الفِكر، والانحِياز الأيدُولوجي  بالمعنىَ السّلبي المُغلق . بيئَة لا تَعِرف للتعدُّدية سَبيل وَلا تَعرِف شَيئًا عَن نِسبِيَّة (الصَّواب/الخطأ) .

الكُل يَرى نَفسه فيها امتَلك الحقيقة المُطلقة، و مِن ثمَّ امتلك حَق التعدِّي عَلى غَيِرِه المُختلِف مَعَه فِي (الدِّين/ العرق/ الأيدولوجيا) لأنَّه _مِن وِجهة نَظرِه _ إنسان أَقل مِنهُ دَرَجة، اللهَّم إذا اعتَبَرَه إنسَان مِن الأساس !   ثنائية ” أنا ، الآخر ” .   أُحَادية الِفكر تُتنتِج دَائمًا ثُنَائِية فِي غَاية الخُطورة :  ثنائية ” أنا، الآخر ” .

أنا : هُو كُل من يَشترك مَعي في (الدِّين/ العِرق/ الأيديولوجيا )، وَ هُو مُمتلك للحَقيقة المُطلقة، وَ مَصدر للخَير المُطلق، وهو دائمًا عَلى صَوَاب، وَ أفعَاله الظَّالِمة مُبرَّرَة “فقط” لأنَّه مِن نَفس انتمائي.   الآخر: هُو كُل مُختلف مَعي في (الدِّين/ العِرق/ الأيديولوجيا )، وَ هُو لا يَعرِف للصَّوابِ سبيلًا،  وَ هُو مَصدَر الشر المُطلق، إنسان أقل منِّي دَرجة، ليسَ لَه الحُقوق التي لدَيّ، و لا مَانِع فِي التَّعدي عَلى حُقوقِه و ظُلمِه مَا دام لا يَنتميِ إلَى ما أنتمي إليه.   تقولُ أستاذة (دينا ذكي) فِي منشور سابق:

  ” علشان تعرف تتخلص من ناس لازم تعمل لهم عملية ” dehumanization ” تنزع الصفات الأدمية منهم.. نخليهم “the others”.. هؤلاء الذين لا يشبهوننا، ليسوا مثلنا، دينهم غيرنا، لونهم غيرنا، لا يتألمون مثلنا، ليسوا بنو آدم، ولذلك قتلهم/ ظُلمهم عادي “.

للإطلاع علي لينك المنشور كاملًا إضغط هنا  

و شُكر خَاص للأُستاذَة دينا لأن مَنشورها أحد أسباب كتابتي لهذا المقال وَ لكن ما الحل لِمثل هذه المُعضلة ؟   الحل – في وجهة نظري – يكمُن في خطوتين :


الأولى : أن تُؤمن أنه لا يوجد خير مُطلق أو شر مُطلق، حيثُ النَّفس البشرية مهما كانت إنتماءاتها (الدينية/ العرقية/ الأيديولوجية)  خليط مِن الخَير، والشر، وَ أنَّ الصَّواب و الخطأ نسبيان .. حيثُ تَصرُّفات النّفس البَشرية _ مَهما كَانت انتمَاءاتِها _ تَتَأرجَح بَين الصَّواب، والخطأ .

” قلب بلا إنسانية كافر، لا تشفع له نوع الديانة التي يتعبدها، موحدًا كان أو مُثلثًا، يعبد بقرة أم يعبد الله فقط “

عبد الرزاق الجبران

الثانية : أن يَكون انتماءَك للإنسَانية أكبر مِن إنتماءَاتك (الدينية/ العرقية/ الأيديولوجية) . و هُنا لا أعنِي أن تَنسَلخ مِن دينك أو قوميتك، وَ لكن ما أعنيه هُو أن تَتَجرَّد مِن انتماءاتك (الدينية/ العرقية/ الأيديولوجية)  عِند النَّظر إلى المَواقِف، وَأن تَنظُر للمَوقف عَلى أنَّه إنسان ظَلَم إنسَان، بِغض النَّظر عَن انتماءات الظَّالم، والمظلوم .

و ترى الأفعال علي حقيقتها، عِندها فَقط سترى الظُّلم ظُلمًا، وَ لن يَكون هُناك أي مَجال لأن تَرَاه غَير ذَلك لِأنَّ الظُّلم ظُلم” لا يؤلدج” .  فَيُصبح ظُلمًا عِندما يَصدر مِنَنَا ضِد المُختلفين مَعنا عقائديًا، أو أيديولوجيًا..ولا يُبرَّر لمُجرد أنَّه صَدَر مِن كَيان أنت مُنتمي إليه بشكل عقائدي..أيديولوجي، أو بأي شكل آخر.   تظن أن الأمر صعب ؟ أعتقد ذلك. لَقد كان صعبًا بالنسبة لي أنَا الآخر فِي بَادئ الأَمر، وَ لكنَّي سَأقص عَليكَ مِثالين لعلَّهم يَكُونَا سبباً فِي إلهامك كَما كَانا سبباً فِي إلهامي .   راشيل كوري .   المثال الأول : (راشيل كوري  Rachel Corrie)  التي قدَّمت وَاحدة من أعظم صُور الإنسانية علي الإطلاق.

راشيل فَتاة يهودية وُلدت في الولايات المتحدة الأمريكية، بَعد أن أنهت دِراستها إلتحقت ب ( حركة التضامن العالمية(ISM   بَعدها بِعام واحد سَافرَت إلى فَلسطين لِتَقف بِجانِب الشَّعب الفَلسطيني ضِد استبداد أبناء دينها من الإحتلال الإسرائيلي.

  راشِيل تَرَكت حَياتها المُرفهة في آميركا لتُسافر لِبلد يَبعُد آلاف الأميَال عن بلدها، لِتقف فِي صف شَعب لَيسَ مِن شَعبِها، يَدين بدين غير دينها فقط لأنه مظلوم.  لِتَعيش فِي بيت طَبيب فلسطيني في غزة مُكون مِن غرفتين، و مُهدم مِن جرَّاء القصف.   شَاركت راشيل في العَديد مِن الأنشطة .. كَمُحاوَلاتها لِنقل صورة لِمعاناة الفلسطنيين للمُنظمات الحقوقية العالمية، و مُساعدة المُزارعين فِي حصد الغلال، وَ مُرافقة الأطفال للمدارس، و القيام بأعمال احتِجاج سِلمية.

  ظلَّت رَاشِيل تُدافع عَن حُقوق الفَلسطينيين لسَنَوات طَويلة إلى أن قُتلت يوم (16/3/2003) عِندَما حَاولت قُوات الاحتلال هَدم مَنزِل الأسرة الفلسطينية التي تُقيم عندها رَاشيل باستخدام جرَّافة. فَما كان مِن راشيل إلا أن وَقفت فِي طريق الجرَّافة لِمنعها مِن هدم المنزل، و لكِن سائق الجرافة دهسها، و هَدم المنزل.   ناتالي بورتمان .   المثال الثاني : المُمثلة الهوليودية )ناتالي بورتمان (Natalie Portman  . يَهودية وُلدت فِي إسرائيل، وانتَقَلت فِيما بعد إلى الولايات المتحدة الأمريكية .

دَعتها مُنظمة في تل أبيب مُنذ عِدة أيام لِتكرِيمها كأفضل مُمثلة، وَ إعطائها جَائزة مَالية قدرها مليون دولار، لَكِنَها رَفَضت الذِهاب اعتراضًا عَلى انتهَاكَات إسرائيل ضد الفلسطينيين.

  بالطبعِ أنا لا أحتفي براشيل و ناتالي لأنهما دعمَتا قَضِية فلسطين_البلد العربي المُسلم_ ، لكن لأنهما استَطاعَتَا التَّجرد مِن انتمائاتِهم (العقائدية/ القومية)، وَ رَفض الظُّلم. لَم يُحاوِلا تَبريرَه لِمُجرد أنَّه صَدر عَن كيان يَنتمون إليه (عقائديًا/ قوميًا)، وَ لو كَانتا عَربيتَيين مُسلمتين رَفَضتا ظلم أي كَيان إسلامِي ضِد أفراد مُختلفين عقائديًا لاحتَفَيت بِهم نَفس الاحتفاء لأن : “الظُلم لا يلبس الأقنعة”.