أندلسيات | بلاط الشهداء
عصر الولاة (٢)
في الفترة بين (١٢٢-١١٤هـ، ٧٣٠-٧٣٢م)
افتِتَاحيّة..
تعتبر معركة بلاط الشهداء هي نهاية أضخم حملة قام بها مسلمو الأندلس خلف جبال البرانس في فرنسا، وتعتبر ختامًا للأنشطة الجهادية الكبرى في عصر الولاة، تلاها بعض النشاط العسكري الإسلامي في فرنسا إلا أنه لأسبابٍ كثيرة داخل الأندلس وخارجها قد توقف مع الوقت.
مدينة أرغون خلف بلاد البرت (في مسجد المدينة)
بدايات عام ١١٥ هجرية/ ٧٣٣ ميلادية
قائدُ حاميةِ المدينة..
”الحمدُ للهِ الذي أطعمَنا من جوعٍ وآمننا من خوْف“، فلولا وصول الوالي الجديد عبد الملك بن قطن الفهري إلينا في الوقت المناسب بعد الهزيمة لما تمكنَّا من إنقاذ تلك البلاد من أيدي الفرنجة وقائدهم (شارل مارتل)، والذي انشغل أيضًا في محاربة أعداءه من الجرمان وغيرهم آمِلًا أن يعودَ إلينا في وقتٍ لاحق، إننا هنا خلف جبال البرت نقف على ثغر الأندلس الأعلى، فلا تنازعوا فتفشلوا فتذهب ريحكم، فقد قرّر الوالي عبد الملك لإحكام سيطرتنا على هذه البلاد -جنوب فرنسا والملاصِقة لجبال البرانس والتي مثّلت خط دفاع المسلمين عن الأندلس وقاعدة انطلاقهم لمحاولة فتح بلاد غرب أووربا- أن نتحصن بالمدن في حاميات قوية لتفادي آثارهزيمة “البلاط،”ورحم الله شهدائنا الأبرار.
قبل ذلك الوقت بأشهر قليلة
(رمضان عام ١١٤ هـ، أكتوبر عام ٧٣٢ م)
جريحٌ على طريقِ العودة..
لقد تمنيْتُ الشهادةَ في كل لحظة، ولكن ها أنا الآن كالجبناء على الفراش، يحملني إخواني كلَّ يومٍ في مسيرتهم للعودة إلى أقرب حصونِ المسلمين، لقد خرجنا مع القائد الشجاع (عبد الرحمن الغافقي) في أوائل العام في سبعين ألف مجاهدٍ، لقد كان يومًا مهيبًا أعدَّ له الغافقي طويلًا منذ تولى الولاية عام ١١٢ هجريًا، لقد شعر الغافقي بأن فرقة المسلمين وعدم انضباط الجُند في الأندلس قد أضرُّوا بقضيتنا الكبرى، فقد كانت هجماتُ المسلمين قبله تتميز بأسلوب الحرب السريعة الخاطفة التي تتميز بإرهاب العدو ونهب حصونهم منذ الوالي المجاهد الشهيد (عنبسه) -والذى وصلنا معه قُرب باريس حيث لم تطأ خيلُ المسلمين هذه الأرض من قبل-، ولكن مع الوقت تغيرت أنفسُ الناس وارتبطت بالغنائم، وتغيرت صورة الفاتحين في عيون أهل البلاد مما أضرّ بقضيتنا الكبرى وهي نشرُ الإسلام والعدل في ربوعِ هذه الأقطار. لذا، أوقف الغافقي هذه الحملات الخاطفة وبدأ بإعادة انضباط الجند، ونظَّم أحوالَ البلاد التي اضطربت نتيجة تعاقب سبعة ولاةٍ عليها لم يتعدَ أحدُهم الشهرين! وأعد لمدة عام لهذه الحملة التي وحَّد فيها البربر مع العرب على الجهاد.
لذا حينما خرجنا مطلع هذا العام قاصدين الفتح وليس مجرد غارة كان الحماس يملؤنا، آملين أن يفتح الله بنا فتحًا عظيمًا“”.
رجلٌ من الجرمان في قرية مواسيه لا باتاي (المكان الذي حدثت فيه المعركة)
لقد كان الأمر أشبه بالخيال! إن هؤلاء” العرب والبربر الذين يدينون بالإسلام كانوا قد أزعجونا إلى حدٍ كبير، غاراتهم لا تتوقف، حتى سمعنا عن خروج قائدهم (الغافقي) على رأس حملةٍ كبيرة يقصد بها فتح إقليم أقطانية. وبالفعل فزعت أوروبا من أخبار الحملة الكبيرة التي فتحت بوردو عاصمة أقطانيه بسهولة ومن هروب الدوق أودو، ووصلت قوات المسلمين إلى ليون وبواتيه وطولوشة وغيرها من كبريات المدن ثم سارت نحو تور على الطريق المؤدية لباريس مما أدى لاستنجاد أهل تلك البلاد بـ (شارل مارتل) قائدنا الجرماني العظيم.
سمعنا عن توافد كافة الأوروبيين بعد دعوة البابا وشارل مارتل لوقف زحف المسلمين؛ لقد كانت الجموع كبيرةً تُقدَّر بأربع مائة ألفٍ من الجرمان والفرنجة والشماليين وغيرهم وشعرنا أنها معركةُ مصير، والذي حفَّزنا هو أننا نقاتل مجتمعين غير مُفرَّقين، والمسلمون بعيدون كثيرًا عن خطوط إمدادهم محملين بغنائمَ عظيمة من بلادنا لكننا شعرنا بخوفهم على تلك الغنائم وحرصهم عليها أكثر من حرصهم على أي شيءٍ آخر، بالإضافة لملاءمة الطقس لنا. لقد كانت المعركةُ صعبةً وشاقة ولم يكن النصرُ سهلًا أبدًا، وقرر قائدُنا عدمَ تتبع المسلمين والاكتفاء بذلك النصر الصعب وذهب ليقاتل بعض من أعدائه في وسط أوروبا“.
قبل ذلك الوقت بقليل
أواخر شعبان والأيام الأولى من رمضان عام ١١٤ هجريًا
قريه شمالى بواتيه بنحو ٢٠ كم ، بجانب طريق رومانى قديم مسمى بالبلاط
رجلٌ من البَربر..
”وصلنا مع الغافقي إلى هنا بعد معارك عديدة وانتصارات كبيرة، معنوياتنا مرتفعة للغاية، إلا أن ما يقلقني أن أغلبَ الجُند منشغلون كثيرًا بالغنائم، بالإضافة لتنازع بعض إخوتي من البربر مع بعض إخوتنا من العرب داخل صفوف الجيش بشأن حديث هؤلاء العرب عن خيانة أحد قادة البربر (يقصد منوسة وهو قائدٌ بربري تحالف مع أودو دوق أقطانية الذي هزمه الغافقي).
الغافقي تابعي شديد الإيمان، جندي باسل شجاع، لكنه ليس سياسيًا بارعًا، استقامته وهي نقطة قوته أصبحت الآن نقطة ضعف خطيرة لأنه لا يستطيع أن يسايس الجُند ويحل خلافاتهم الضَيِّقة ونحن في وسط المعركة التي من المتوقع أن تكون فاصلة“.
رجلٌ من الفِرنجَة ..
(لفظ الفرنجة أُطلق في ذلك الوقت على سكان فرنسا الحالية، وتم تعميمُه في الشرق على الأوربيين بعد الحملات الصليبية)
إن المعركة قاسية جدًا، نقاتل هؤلاء القوم الأشداء منذ أيامٍ طوال النهار ثم يفصلنا الليل لنستريح ثم نقاتل وهكذا.. إن خسارة أصدقائك وأحبائك شيءٌ مؤلم كثيرًا، لكننا نُقاتل في ظروفٍ ملائمة لنا رَغم عدم ظهور بوادر للنصر حتى الآن.
إن هؤلاء القوم يحبون الموتَ أكثر مما يحبُّ بعضُنا الحياة، لكن قائدنا (شارل مارتل) الذى يصول ويجول بمطرقته في صفوف المسلمين قد بشَّرنا أنه وجد ثغرة في صفوف جيوشهم وأننا في الغد سوف نستغلها. ثغرة تفتح لنا طريقًا نحو غنائمهم؛ والتي لاحظنا مدى حرصهم عليها، لعل هذا يجعل لنا طريقًا نحو إرباكهم وضرب مؤخرة قواتهم، وقد تكون هذه نهايتهم!“.
أحدُ قادة جيشِ المسلمين ..
”أيها الرجال اهدأوا قليلًا، كفانا ما لقينا اليوم! رحم الله القائد (عبد الرحمن الغافقي) فقد كان جنديًّا شجاعًا مخلصًا، إن الفرنجة لاحظوا حرص جندكم على الغنائم فهاجموها اليوم حتى اضطربت صفوف الجند وعاد بعضُهم ليدافع عن غنيمة دنيا زائلة! وبعضهم ثبت مع القائد الشجاع الذي قاتل حتى استشهد بسهمٍ في صدره.
إننا اليوم قد تعلمنا دروسًا عدة رَغم فداحة الخسارة، إن الفرقة بين الجند وبوادر العصبية القبلية جعلت جيشنا المنتصر مفككًا، وإن حب الجند لغنائمهم شتت تركيزهم عن الغاية الكبرى. رغم كل ذلك فإننا اليوم لم نُهزم هزيمة نكراء أُبيد فيها جيشنا لا سمح الله! إننا هُزمنا فى يومٍ واحد من أيام المعركة، وبإمكاننا الإستمرار في القتال إلى أن نظفر بأعدائنا، لكن رأيي أن جندنا ليسوا على قلب رجلٍ واحد، وأن خسارة الغافقى فادحة، فقد كان الرجل رغم شدته وإستقامته البالغة هو من يجمع الناس رغم إختلافاتهم لأنهم كانوا يوقرونه ويحترمونه. رأيي أن ننسحب إنسحابًا تكتيكيًا إلى أقرب المدن التابعة إلينا إلى أرغون أو غيرها من حصوننا الجنوبية“.
امراةٌ من المولدين في أسواق قرطبة..
(المولدون هم الأندلسيون أبناء العرب والبربر والأندلسيون المسلمون والمسحيون واليهود والذين تزاوجوا من بعضهم البعض بعد الفتح ونتج عن ذلك بدء ظهور أجيال المولدين أو الأندلسيين)
”عن أي عرب أو بربر تتحدثين يا امرأة؟ ألم تسمعي خبر بلاط الشهداء؟ كفانا فِرقة ومذهبية! لقد كان الوالي (عبد الرحمن الغافقي) -رحمَه الله- يعلم أن هذا هو سبب اضطراب أحوال هذه البلاد؛ لذلك نظَّم أحوالها وضبط أمورها وجنَّد الأجناد ووحدنا على الجهاد فى سبيل الله. ورغم ما وصل إليه من فتوحات بَعُدَت عن مكاننا هذا ألف كيلومترًا إلا أنه استشهد وهُزم المسلمون في معركة بلاط الشهداء نتيجة خلافاتهم ونتيجة حرصهم على الغنائم.
إن لم نتعايش سويًا كأندلسيين بغض النظر عن قبائلنا وأدياننا فإنه لن تقوم لنا قائمة، عجبًا لكم! يومًا تتغنون بالقبلية والمذهبية وتتشاحنون، ويومًا آخر تقفون بجوار بعضكم بعضًا تجاهدون العدو، أيجب أن تصيبنا المصائب كي نفيق؟ خذي حاجتك من الفاكهة واغرُبى عن وجهي هداكي الله!“.