سبعون عامًا من الحرية
إن الإنسانَ الحُر كلما صَعدَ جبلًا عظيمًا وَجدَ مِنْ ورائه جبالًا أخرى يصعدها، والحرية لا يمكن أن تُعطَى على جُرعاتِ، فَالمرء إما أنْ يكون حرًا أو لا يكون حرًا، والجبناء يموتون مراتٍ عديدة قبل موتهم، والشجاع لا يذوق الموت إلا مرة واحدة.
نيلسون مانديلا
يومًا ما جلست مع بعض المقربين لي نشاهد برنامجًا تلفزيونيًا على إحدى القنوات الإخبارية ثم تطرق حديث المذيع نَحو الحرية وضوابطها وذكر بعض من أصنافها ثم خرج إلى فاصل إعلاني ليتركنا في اندماج تام نتناقش فيما كان يذكره، فبعضنا تحدث عن حرية العقيدة، وبعضنا تحدث عن حرية الرأي والإرادة، وبعضنا ذكر الحرية الشخصية، والبعض الآخر أراد أن يتحدث عن الحرية السياسية وحرية الصحافة، وحين أشرفنا على الانتهاء وجدت شيئًا عجيبًا جذب انتباهي، وجدتنا نتحدث حول القضية الفلسطينية وما هي عليه الآن من أحداث وتطورات، فتوقفت ثم تساءلت في نفسي ” كيف بِنِقاشٍ حَوْلَ الحُرية يأخذ هذا الانعراج العجيب ليصل إلى القضية الفلسطينية، ذلك القطر الذي لم يعرف للحرية معنى قط!
وحين نظرتُ في الأمر وجدت في بلادنا العربية من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي -الجمهورية منها والملكية- اختلافًا مُتباينًا في البَحثِ عن الحريات وإنْ كان يجمعنا هوية واحدة وهى الهوية العربية، فإذا نظرنا شرقا إلى دول الخليج العربي -على سبيل المثال- نرى أن بحثهم يتبلور حول الحرية الشخصية وكأنها هي العقبة التي إن تخطوها عبروا إلى أبوابِ المدينة الفاضلة التي يَحلمون بها، وإذا نظرنا غربًا إلى المغرب العربي وبلاد النيل نرى أن الأولى عندهم هو البحث عن حرية الرأي والسياسة واختيار المصير، وإن كان كل ذلك جزءًا لا يتجزأ من معاناة الإنسان العربي في هذا الوطن الكبير، ولكني تساءلت أي معاناة تعدل معاناة الشعب البَاحِث عن حريةِ وطنه؟
ليس الخزي أن تُنتهك حرمة بيتك، ولكن الخزي أن تُنتهك وأنت تشاهد ولا تدافع.
هكذا أردتُ أن أبدأ رحلة الحرية التي يعيشها الشعب الفلسطيني، فمنذ ثمانينات القرن التاسع عشر حينَ شجعت بعض الحكومات الأوروبية الهجرة اليهودية إلى الأراضي الفلسطينية إثر دعوة الحركة الصهيونية، ومُنذ احتلال الجيش البريطاني المتجه من مصر عام ١٩١٧ م للأراضي الفلسطينية ثم الانتداب البريطاني عليهم بموجب قرار عصبة الأمم[١[ عام ١٩٢٠ والذي أدى سرعة تنفيذه إلى الإقرار بوعد بلفور وأنا أنظر إلى الأراضي الفلسطينية كأرض مُحتلة بلا حُرية لا تملك حولا ولا إرادة كسائر الوطن العربي في ذلك الوقت، ولكن الحرية الحقيقية بدأت منذ عام ١٩٣٦ م حين تألفت لجنة قومية التي دعت إلى الإضراب العام وأعلنت الثورة في أنحاء البلاد اعتراضًا على الهجرة اليهودية إلى فلسطين ومنع انتقال الأراضي الفلسطينية إلى اليهود، ثم تطور الوضع سريعًا مرورًا بإنشاء جامعة الدول العربية عام ١٩٤٥ م، ثم التحالف العربي على إسرائيل عام ١٩٤٨ م، ثم الهدنة ثم التقسيم ثم بعد ذلك أصبحت فلسطين مصرًا يدافع عن نفسه بنفسه وصارت الهوية العربية مجرد شعار لا يردده إلا الشعوب دون الحكام.
ليس من الغريب أن تبحث عن الحرية في وَطن يُحارب الحريات ولكن الغريب أن تبحث عن الحرية في وطن سُلبت منه حريته.
مقولة خطرت في ذهني وأنا أشاهد مسيرة العودة الكبرى الفلسطينية [٢] ثم ما برحت أن اغرورقت عيناي بالدموع حين رأيت تلك المشاهد التي رسخت الحرية في أسمى معانيها، هناك رأيت امرأة منعها الحياء من الكشف عن وجهها ولكن حريتها أبت إلا أن تكون كالجبال الرواسي وسط لهيب من النيران، رأيتها تعاني من ضعف في بدنها وثقل في حملها ولكنها بدت بقوة العالم أن الجبالَ ما صارت جبالاً إلا من الحصى، رأيت إطارات من النيران ظهرت كالبنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضًا، ثم رأيت من بين الدخان -المبعثر في كل مكان- قدمًا واحدة تقف في شموخ الحر العزيز فبحثت عن الأخرى فوجدتها عكّاز لا يغنى عن قدم مبتورة -نعم رأيت ذلك– رأيتهم يبحثون عن الحرية في وطن سُلبت منه الحرية، في وطن اقترن بلفظ الاحتلال حتى صار منه بمنزلة العظام في جوف اللحم، رأيت الكرامة والعزة في قوم أيقنوا أن قتل الأحرار ليس كالعفو عنهم.
أليست تلك هي الحرية في أسمى معانيها! وإن ما نتغنى به ما هي إلا أوهام في وطن يسعى حُكامه لبناء ما يطلق عليه دولة متحضرة، أو في وطن آخر يسعى حكامه لسلب حق أبديّ أجازه الدم وجغرافية المكان، أو في وطن آخر يسعى حكامه لبتر جزء ثمين من تراب الوطن الأكبر العظيم ظلمًا وبهتانًا، ومع ذلك نتغنى أننا نملك إرادتنا، نتغنى أننا أحرارًا في وطن حر وإن كان لا يعرف للحرية معنى!
إنني أحسُ على وجهي بألم كل صفعة توجه إلى كل مظلوم في هذه الدنيا فأينما وجد الظلم فذاك هو وطني وأن الطريق مظلم وحالك فإذا لم نحترق أنت وأنا فمن سينير الطريق.
جيفارا
نعم أيقنت أخيرًا وبعدُ كثير من التفكير والتمعن أن الشعوب السيدة على أرضها والفاقدة لثوابت الحرية الحقيقية وأصولها ما هي إلا شعوب سيدة في أرضها محتلة في إرادتها ومصيرها، وأن الشعوب المحتلة أرضها والمؤمنة أن الحياة لا تقاس بطول الأيام ولكنها تقاس بمدى إحساس الإنسان أنه حر، المؤمنة أن الحرية الحقيقية ليست هي الحق الذي يجيز للإنسان أن يختار مأكله أو مشربه أو حتى عقيدته، ولكنها هي رغبته في أن يكون مسئولًا عن نفسه، هو شعب محتل في أرضه سيد في حريته وإرادته، فما كان مِني بعد ذلك إلا أن توقفت ثم هتفت بصوت جهور ” تحيا فلسطين الحرة في وطن عربي محتل.”.
- (١) الأمم المتحدة
- (٢) مسيرة احتجاجية خرجت في قطاع غزة بالتزامن مع يوم الأرض ٣٠ مارس للمطالبة بحق العودة الذي نصت عليه القرارات الأممية، ولاسيما القرار ١٩٤ الذي بموجبه تم قبول عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة وما زالت المسيرة مستمرة حتى يومنا هذا.