بندقية من العصا

اليومُ أعودُ إلى القلمِ لأنفضَ عنه الترابَ وإلى الفكرِ لأجلو عنه الصدأَ، فالرِّقابةُ على الصحفِ لا تحكمُ الأقلامَ فحسب بل تقضي على مَلَكةِ التفكير. فلماذا يُجهِد الكاتبُ نفسَه ويكدحُ المفكرُ ذهنَه إذا كان ما تجودُ به قريحتُه لا يُنقل إلى الجمهورِ أبدًا ولا يصلُهم إلا مبتورًا مشوَّهًا بفعلِ الرقيب، ويا ويلَ أمةٍ لا يمارِسُ كُتّابُها إلا المدحَ والثناء ولا يَسمعُ حكامُها إلا تلك النغمةَ المرذولة! فالنقدُ السياسي كالنقدِ عامةً ضرورةٌ من ضروراتِ الحياةِ والتقدمِ ورمزُ الحيوية، فبغيرِه تفتُرُ الهممُ وتتقاعسُ النفوسُ ويخبو الذهنُ والإصلاح

 – د.وحيد رأفت مُعلقًا  في جريدة المصري في ٨ مارس سنة ١٩٥٤ على رفعِ الرِّقابةِ عن الصحافة.


كُنا أطفالًا نستيقظُ في الصباحِ الباكر لنلتقي بأكبرِ معاناةٍ في الحياة ونذهبَ للمدرسةِ  حاملين على ظهورِنا حقائبَ متعددةَ الاستخدام تكفي لسفرٍ مكدسةً بالكتبِ والأوراق كأننا جِمالٌ نعبُرُ الصحاري والتي لها استعمالٌ آخر وقتَ تجميعِ القمامة من الفناء وقتَ حصةِ الألعاب الرياضية أو الفسحة، لتبدأَ بعد طابورِ الصباح ساعاتٌ من العناء وتبدأَ الزراعةُ الفكريةُ والعلمية والتربوية، والمدرِّس يتناولُ الشرحَ على السبورة ونحن نقلِّب أعينَنا بين المدرسِ والسبورةِ وثلاثِ صور لن أنساها ما حييت، علمِ مصر وعلى جانبيْه صورتيْن للرئيس.

وفورَ نهايةِ الدوامِ الدراسي تأتي لحظاتُ الطفولةِ الأجملُ على الإطلاق ونظلُّ نلعبُ ونلهو بطاقةٍ غيرِ منقطعة النظير حتى تخطفُها منا الشمسُ وتهربُ سريعًا لتتوارى خلف الأشجارِ وتسرِقُ الضوءَ معها أيضًا، لنفرّ لبيوتِنا مخافةً من العفاريت التي تسكنُ الشورعَ في الليل، ونحملُ معنا أحلامَنا الوردية للسريرِ لنقضيَ باقي الليلِ معها.

وأذكرُ جيدًا لعبةَ “العسكر والحرامية” التي أتقمصُ فيها شخصيةَ الجندي كما تعلمْتُه  في دروسِ القراءةِ بالمدرسة، أحملُ بندقيةً من عصا خشبية وأرتدي اللونَ البُني وخطوط سوداء تحت العينين، وأعدو كبطلٍ خلف اللصوصِ أعداءِ الوطن ولا تنقطعُ أنفاسي حتى أقبضَ على الأوغادِ وأمشي مرفوعَ الرأسِ فأنا حامي حمى الوطن، أو أسقطَ شهيدًا وألحقَ بأعلى المنازلِ، وكبرتُ على حبِّ البطل وذلك الدورِ البطولي وكبرَ معي فضولي وحبُّ اطلاعي أيضًا.

وحُفرَت تلك الصورةُ في ذهني حتى انهارت فورَ اطلاعي على صفحاتٍ من كتبِ تاريخِ مصر تحديدًا  أواخر سنين المَلِك وبعد الانقلاب عليه، فكلُّ كلمةٍ أقرؤها تسلبُ جزءًا من الصورة وكلُّ سطرٍ أتركُه وأنا أُشهِرُ بالبغضِ وكلُّ صفحةٍ أقلِبُها أقلبُ بها المفاهيمَ والمنطقَ بعقلي، رأيْتُ الجندي تركَ الأوغادَ وصار ملِكًا يحكم، وآخرين يلعبون السياسة ولكن في أيديهم بطاقتين زيادةً عن أي سياسي .. البندقية والمعتقلات ويُشهرون بُندقيتي الخشب ويغرِسونها في عين الساسة ويفتحون المعتقلات لتكون لهم مثواهم الأخير.

تركْتُ طفولتي ومعي حُلْمي أن أصيرَ مُهندسًا خادمًا لمُحركات الطائرات، لكن  الأحلامَ الوردية تبددَتْ مع الليلِ أمام إدارةٍ تعليمية بلا تعليمِ وحِكمةِ الكبار المتميزين فقط في تقديم نصائح لقتلِ الأحلام، فأمام نظامٍ تعليميٍّ فاشل وجهلٍ اجتماعيّ باستغلالِ الأفراد تضيعُ الأحلام.

وخطرَ ببالي أن أكونَ سياسيّا محنكًا يعملُ ليلًا نهارًا لإصلاحِ التعليم ومحوِ الجهل ويحققُ للأطفالِ أحلامَهم الوردية فيعترضُ بصوتِه الجَهورِ مُطالبًا بِحقوقِ الفقراء  والمستضعفين، وعقلُه ينشغلُ بأمورِ العامة ويدبرُ الخطَطَ ليضربَ الظلمَ القابع في الجحور بكل الصورِ ويهابُه الظالمون أينما كانوا، ولكن تبددَتْ الأحلامُ هذه المرة أمام البندقية التي حملْتُها صغيرًا ودُفنت بالمعتقلات.

وها أنا صرْتُ فقط أكتبُ عن أحلامي التي طارت وأصنعُها فقط بالأقلامِ والأوراق وأنقُلُها لكم بسطورٍ محتضنةٍ للكلمات.. وأحيا على أملِ أن أشهدَ يومًا أكتبُ فيه بقلمٍ حر كدكتور وحيد في جريدة المصري محتفلًا بالحريةِ وأخشى فقط أن يُقصَفَ القلم.