السجن مطرح الجنينة.. الشيخ إمام والعم نجم

“و الفجر شعلة هتعلا وعُمر الموج ما يطويها

و الشط باين مداين عليها الشمس طوافة”

كَتبها العم فَلحنها الشيخُ وأطلقها بصوتِهِ العزب مرةً في أعين الظلم ومرةً  في قلوبِ المُحبين ومرات أخرى مختلفة لكل من احتاج لمن ينطق عنه، هكذا كانت ثنائية العم أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام أحمد عيسى من اليوم الأول للقائهم وسنوات شبابهم  بالمُعتقل وأيامهم بعد المُعتقل وحتى بعد مماتهم عاشت سنوات وسنوات في قلوبنا.

قضى الشيخ إمام سنوات حياته الأولى بقرية أبو النمرس بمحافظة الجيزة لأسرة فقيرة، وكان حظه كحظ طه حسين فَفقد بصره خلال الأشهر الأولى له نتيجة لِلجهل واستعمال الوصفات الطبيّة البدائية في علاجِ مرضه بعد اصابته بالرمد الحُبيبي، وطفولته -التي اتسمت بالظلام- حَفظ فيها القرآن الكريم بالجمعية الشرعية بالقرية حتى ذلك اليوم المشؤوم الذي هَوى فيه الطفل لسماع القرآن الكريم بالراديو الذي -اُعتبرَ من البدع وقتئذ- فَطُرد من الجمعية الشرعية وأكمل والده -الذي اشتهر بالقسوة-  العقاب فبحث عنه حتى وجده في حلقات الأزهر الشريف  بالحُسين فانهال عليه ضربًا وطرده من البيت وماتت والدته التي احبها امام كثيرًا  بعدها مباشرة .. ولم يعد للبيت إلا عند وفاة والده.

استقرَ الشيخ إمام في القاهرة مع بعض أهالي قريته حتى قابل الشيخ درويش أحد علماء الموسيقى الكبار فأعجب به وبصوته فتولى تعليمه الموسيقى وعَرفه على المُلحن الشيخ زكريا الذي لحن العديد من أغاني الست  حتى وجده زكريا يتغنى بألحان الأغاني التي يصنعها لأم كلثوم للناس قبل أن تغنيه.

فطُرد إمام  وعاش وحيدًا في شقة في حوش آدم وفي الوقت نفسه مكث شاعر تربى في دار الأيتام  بعد وفاة والديه وذاق ظلمة المعتقلات .. شاعر في أول طريق حياته في غرفة على  السطح في حي بولاق الدكرور ومَهَد القدرُ الطريق لتاريخ من هبات الفن التي انهالت علينا رُطبًا طيبة منذ  اللقاء الأول لهم عن طريق صديق لأحمد فؤاد نجم وجار للشيخ إمام.

أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام
  • ” أنا اتوب عن حبك أنا ؟
    أنا لي ف بعدك هنا ؟
    دنا بترجاك
    الله يجازيك
    يا شاغلني معاك
    وشاغلني عليك
    وان غبت سنة
    أنا برضه أنا
    لا اقدر أنساك
    ولا لي غنا
    ولا اتوب
    عن حبك أنا

وفي الزيارة الأولى للشيخ سأله نجم مُترقبًا “هو احنا ممكن نسمع حاجة” فتحرك الشيخ في صمت ليأتي بالعود فامتلأت الغرفة بالغبار وكأن الشيخ بصمته ترك العود بغباره الذي  انتفض ليملأ الغرفة ليعبر عن حالهِ، واستقر العود على قدميه وبدأ بدوزنة العود وما إن انتهى حتى سأل الضيف عما يريد سماعه فرد قائلًا “عاوز حاجة للشيخ طلعت زكريا”

وبدأ صوته العذب بسرد ألحان طلعت زكريا وعلى جانبه شخص ذاب حبًا في صوته … فرغ الشيخ من الغناء فعرض عليه نجم مباشرةً أن يبدأ في طريق التلحين والغناء فرد الشيخ مستنكرًا “مش لاقي الكلمة” فجاء الرد سريعًا “أنا عندي الكلمات” ووفق الله بينهم وكانت ليلتهم الأولى غنية جدًا وأنتجا فيها أغنيتين أولهم وأشهرهم “أنا أتوب عن حبك أنا”  … أطلقا عليها البكرية وكانت خير بِكر لمجد تاريخي كُتب لِلثنائي.

وبدأت المسيرة الفنية العظيمة للثنائي وجابت أغانيهم الوطن العربي وذاع صيت الشيخ حتى احتضنت باريس حفلات خاصة له ونجم بجانبه وبرفقته دومًا الذي قال مرةً “الشيخ إمام كفيف فاقد الإحساس بالأمان فكنت أحتضنه وكنت له عينًا وكان صوتي وأذكر مرةً أثناء زيارتنا للقلعة حينما ضربه شرطي بالعصا على وجهه فأخذت مكانه لأتلقى عنه الضرب كاتمًا صوتي حتى لا يشعر بالذعر” ، ولم يفارقه حتى في حفلاته فكان برفقته يردد خلفه الغناء.

وكعادة المواطنين في ذلك الوقت المشاركة في المجال السياسي كانوا يعبرون عن صوت المواطنين بفنهم والوقوف ضد فساد سياسة الضباط الأحرار، حتى طالتهم نيران السياسة على يد عبد الناصر بعد نكسة سنة ١٩٦٧  حيث اتجه الثنائي لِلتعليق والسخرية على أحداث النكسة فلم تأتِ على هوى الفكر الناصري فتم القبض عليهم مباشرةً وصدر حكم عليهم بالمؤبد ليعد الشيخ إمام أول سجين بسبب الغناء في تاريخ الثقافة العربية.

وأيضًا في المُعتقل لم يفارقه نجم وسنوات المعتقل من يوم اعتقالهم بعد النكسة حتى خَرجوا منه بعد اغتيال السادات . .. احتضنت نتاج فني خاص وُلد فيها، فلم تمتص ظلمة المعتقل نور فنهم ففي يومٍ الذي أفرج فيه السادات عن المعتقلين السياسيين ولم يترك سواهم ذكر الشيخ امام لصديقهُ الفتاة التي احبها بتل الزعتر  فكتب له قصيدة خاصه لها أطلق عليها يا حبايبنا ولحنها الشيخ وغناها فورًا.

  • يا حبايبنا
    فين .. وحشتونا
    لسه فاكرينا
    ولا نسيتونا
    دا حنا فى الغربة
    م الهوى دبنا
    وأنتو فى الغربة
    اوعوا تفكروا
    إننا تبنا
    مهما فرقونا
    ولا بعدونا
    يا حبايبنا

واستمرت حياتهم وصداقتهم بعد المعتقل حتى تُوفي الشيخ سنة ١٩٩٥ وتوفي نجم سنة ٢٠١٣  الذي عاش ليشهد ثورة يناير ليذكر متباهيًا في إحدى مقابلات البرامج التليفزيونية أن الثُنائي تنبأ  بحدوث ثورة ضد الظلم في يوم من الأيام ويحكي عنه وعن نضال الشيخ وحياتهم معا… وحتى قامت يناير التي احتضنت وكرمت الجميع، فَتذكرتهم  وقضت ليالي يناير تتغنى بِأغانيهم في الشوارع والميادين والتلفاز الذي استمر بعرض أغنية ” يا مصر قومي” لفترة طويلة ومازالت تعرض ومازال الشيخ حيًا حتى يومنا هذا، وحتى مانشيت “الورد اللي اتفتح في جناين مصر”  الذي وُصف به شهداء الثورة كان من إحدى أغانيهم.

أذكر جيدًا جملة في إحدى أغانيهم أن “السجن مطرح الجنينة” لم ألتفت لها إلا حين تأملت حياتهم التي التي قضوا فترات طويلة منها في المعتقل، وكانت كَالجنينة وفنهم رُطبًا إلتهمناها نحن وألهمتنا وصنعت فكرًا خاصًا لنا.