أندَلُسِيـّـات | عصر الولاة ١

أندلسيات (عصر الولاة) ٩٦ لـ ١١٤ هجريًّا – من ٧١٥ م إلى ٧٣٢ ميلاديًّا.

افتتاحية..

لم يكنْ فتحُ العرب للأندلس مجردَ فتحٍ عسكري أو حدثٍ عادي، بل كان فتحًا حضاريًا وحدثًا تاريخيًا فارقًا في التماس بين المشرق والمغرب في العصور الوسطى التي امتازت عن غيرِها من العصور أنها عصورُ الدين بامتياز، حيث كانت أغلبَ الإمبراطوريات تقومُ وتنهار على أساسٍ ديني، وأغلب الصراعات الإنسانية تقومُ وتنتهي على أساسٍ ديني أو على الأقل تتخذ الطابعَ الديني وتخفي أسبابَها الحقيقية سواء كانت اقتصاديةً أو اجتماعية أو سياسية، حيث كانت تعبئةُ الأمم والجماهير قائمةً على هذا الأساس، تخطتْ الأندلس في بعض عصورِها هذا الإطارَ من العصبية الدينية والقبلية وتورطت في شِرَاكِه أحيانًا، لكن الأندلس كانت بلا شك مفتاحَ نقلِ علوم العرب للأوربيين، ومفتاحَ نهضةِ أوروبا التي كانت في سُباتٍ عميق وجهلٍ مدقع إلى أن أيقظَتْها ضرباتُ المشرق الإسلامي من الشرق والغرب، وكانت أيضًا مثالًا للتعايش ولحضارةٍ إنسانية تخطتْ عصرَها أحيانًا، لذا سنعتمدُ في هذه السلسلة على سردٍ اجتماعي غيرِ موضوعي لتاريخِ الأندلس، يُمثلُ روايةً متعددةَ الجهات لتاريخِ الأندلس.

رجلٌ مِنَ البَربر..

إننا البربر من زناته أحقُّ المسلمين بهذه الأرض، ألم نخرج في إثني عشر ألف مجاهد أغلبهم منا، مع قائدٍ بربري -يقصد طارق بن زياد- وتحملنا معه لأجل هذا الدين ولأجل هذه الأمة معركةً من أشدِ معارك عصرِنا شدةً، إني ما زلت أذكرُ وادي برباط حيُ  واجهنا جموع لوذريق قائد الجيش القوطي حكام إسبانيا الذين انتزعوها من الرومان منذ قرون وظلموا أهلها وفرضوا عليهم الضرائب حتى استنجدوا بموسى بن نصير والذي كان في انتظار الفرصة، وبدورِه أرسل طارقًا ليقومَ بفتحِ هذه الأرض وتحريرِ أهلها من استبدادِ القوط ونشر الإسلام فيها، لماذا الآن وبعد الفتح يمتلك العربُ كلَ السلطات؟ لماذا يخشون توليةَ أحدٍ من البربر أي مسئولية؟ ألم يتمْ استكمالُ الفتوح مع القائدِ العربي موسى بن نصير وكذلك مع طارق بن زياد حتى وصلنا إلى الصخرة، ثم استدعاهم الخليفة الوليد بن عبد الملك إلى دمشق؟

رجلٌ مِنَ العرَب..

أول عهدي بالأندلس كان عبورَ عُدْوَة المغرب مع طريف بن مالك في سريتِه الاستكشافية، قمنا بالإغارة على بعضِ بلدان الجزيرة الخضراء في جنوب إسبانيا واستكتشفنا الأرض ثم عدنا سالمين، بعدها بعامٍ واحد عبرتْ العُدْوَة مع القائد طارق بن زياد، كانت معركة وادي برباط من أشد المعارك التي شاركتُ فيها حتى الآن، انتصرنا على قوات القوط وفُتحت البلاد أمامنا فتحًا، طليطلة وإشبيلية وقرطبة وكبريات مدن البلاد، رحّب بنا الأسبان وأحبونا وفتحوا لنا أبوابَ مُدُنِهم لأنهم أرادوا التخلصَ من حكم القوط طويلًا، كانت وصايا قوّادنا متناسبةً تمامًا مع دينِنا حيث دعونا إلى احترامِ الشعب الإسباني وتقديرِه وعدم الاستيلاء على أملاكِهم أو كنائسهم أو صلبانهم، وألا نقطعْ شجرةً أو نُؤذي أحدًا أو نفعل أيَ شيءٍ يُغضب اللهَ خلال مسيرنا في تلك البلاد التي تشبه الجنان، إني قررتُ المكوثَ هنا فى هذه البلاد وجاهدْتُ مع عبد العزيز بن موسى بن نصير أول ولاةِ الأندلس بعد رحيلِ والده عن الأندلس و أتممنا  فتحَ البلاد في أربعةِ سنواتٍ فقط في شيءٍ أشبه بالمعجزات! إننا هنا كعرب قد نكون قِلة لكن في أيدينا زِمامَ كل شيء ومن ورائنا خلافةَ بنى أمية التي تفضلنا، إن من حولنا البربر والأندلسيين وهم الأغلبية، إنْ مكنّاهم من شيءٍ لم يكونوا ليتركوه أبدًا.

رجلٌ مِنَ اليهود..

غِرناطَة حيثُ يسكن أغلبُ إخوتي في الدين أصبحَتْ أفضلَ بعد تسليمها لعبد العزيز بن موسى بن نصير، حيث حصلنا على كافةِ حقوقِنا المشروعة التي سلبها منّا القوط بدعوى مخالفتنا لهم في الدين، لقد كانت أيامُنا صعبةً ولم نكنْ سوى عبيدًا لغيرنا لمجرد أننا نخالفهم في الدين، يذيقوننا ألوانَ العذاب وينهبون أموالَنا، لقد كانت يهوديتي نقمتي منذ صغري، وها نحن اليومَ نعيشُ بسلامٍ مع إخواننا الأندلسيين مسيحييهم ومسلميهم، ومع الوافدين من العرب والبربر.

رجلٌ مِنَ المُستَعرِبة..

لقد كان هؤلاء المسلمون أشداء جدًا على كلِ من قاومهم من فلول القوط بعد معركة وادى برباط، لكنهم كانوا رُفقاء جدًا بنا كشعب الأندلس من المسيحيين واليهود، سعدْتُ كثيرًا في داخلي لانتصارهم؛ لأننا سمعنا عن سماحتِهم وحسن خلقهم وتعاملهم مع من يخالفونهم في العقيدة باللين وترك الحريةِ لهم لاختيارِ عقيدتهم، إننا اليومَ نعيشُ في أوضاعٍ أفضلَ من أوضاعِنا في أيامِ حكم لوذريق وقومِه القوط، لنا قضاؤنا المستقل الذي يحكمُ بيننا كمسيحيين، وللمسلمين قضاؤهم الخاصُ بهم، ندفعُ الجِزية سنويًا نظيرَ الحماية وهي ليستْ كجباياتِ القوط أبدًا، إنها حفنةُ ديناراتٍ ندفعُها سنويًا نحن واليهود، لكننا في مقابل ذلك نعيش كأندلسيين ونختارُ رؤساءَنا من أبناء دينِنا ليمثلونا في ديوان الوالي، إن هؤلاء الفاتحين أخلاقُهم حسنةٌ وتتوق نفوسُهم للجهاد واستكمالِ فتوحِهم في أوروبا بشكلٍ مذهل، ولكننا ننأى بأنفسِنا عن صراعاتِهم مع فلول القوط أو مع الفرنجة في فرنسا والأرض الكبيرة (ما وراءَ جبالِ البرانس ويقصد بها فرنسا وغربَ أوروبا).

رجلٌ مِنَ المُسالِمة..

لقد كنت مسيحيًا قبل الفتح العربي للأندلس، وقد كان القوطَ يسمون أنفسَهم مسيحيين اسمًا لكن أخلاقَهم الفاسدة وظلمَهم نفرّنا منهم وجعلنا ندعو في أنفسِنا أن نتخلصَ من ظلمِهم، لقد كانت أخلاقَ الفاتحين على النقيضِ تمامًا بشكلٍ مذهل، ولقد كانوا مؤمنين بما يفعلون جدًا ويرغبون في الموتِ أكثرَ مما يرغبُ غيرُهم في الحياة، لقد تعرفْتُ على دينهم ودخلْتُ فيه أنا وكثيرٌ من أهلِ الأندلس، إننى اليومَ لا أشعرُ بالغربةِ معهم يعاملونني كأخٍ لهم، رَغم وجودِ بعضِ العصبيات القبلية بين العربِ قيسيه ويمنيه وبين البربر وبين كافةِ الطوائف، إلا أنّ الناسَ كلهم كانوا راغبين في استكمال الفتوح في الأرض المفتوحة، لقد أرسل إلينا الخليفةُ عمر بن عبد العزيز والٍ جديد وهو السمحُ بن مالك، ولقد وصّاه أن يستعملَ سياسةَ اللينِ مع شعبِنا وإن السمحَ قد ضبط أمورَ البلاد ونظمها جيدًا وأصلح قنطرة قُرطُبَة العظيمة التي بناها الرومانُ وقد تصدعَتْ وتضررتْ مصالحَنا، لقد كان السمحُ من خيرةِ ولاتِنا ولم يكنْ هناك عصبيةٌ أو انحياز لأحد لذلك أحببناه وترحمنا عليه حين وفاتِه في غزوته فى بلادِ ما وراء البرت، ما يؤرقني حتى الآن أننا كأندلسيين لا نتشاركُ مع العرب في حكمِ هذه البلاد، وأعتقدُ أن البربرَ ينقمون ذلك أيضًا.

رجلٌ مُتحصِّن في الصَخرة..

“ألم تقرأ في الكتاب المقدس أن كنيسةَ الرب يمكن أن تصيرَ صغيرةً مثلَ حبةِ خردل ويمكن حينئذ أن تكونَ برحمة الرب صالحةً لأن تنمو مرةً أخرى لتكبر؟” كان هذا هو ردي على الأسقف أوبا الذي جاء ليقنعني بالاستسلام للمسلمين الذين يحاصروننا في هذه الجبال البعيدة في أقصى شَمال إسبانيا والمسماه بالصخرة، إنني أنا بلايو قائد فلول الجيش القوطي أعلن أننا لن نستسلمَ وأن على هؤلاء الكفار اجتيازَ هذه الجبال من خلالنا بتضحياتٍ كبيرة، وها هم جيوشُ المسلمين تعودُ أدراجها حينًا وتأتينا حينًا آخر فنتحصنُ في الجبال، إن مقاومتَنا هي رمزٌ لتكوينِ مملكة آشتورياس والتي نأملُ يومًا ما أن تكونَ نواةَ حربِ استرداد إسبانيا من هؤلاء الكافرين، يمدُّنا فيها العالمُ المسيحي فى بلاد ما وراء البرت بكثيرٍ من المدد والعون.

مُهاجرٌ مِنَ المَشرِق..

إلى زوجتي العزيزة وأبنائي.. إنني اليوم في طريقِ عودتي مع جندِ الإسلام من الجهاد فيما وراء البرت، لقد خرجنا مع السمحِ بن مالك بعد هجرتِنا إلى الأندلس واستقرارِنا بها، راغبين في إعلاءِ كلمة الله وفي وقف إمدادات الفرنجة لفلول القوط في جبال إسبانيا الشمالية، لقد نجحنا في بادئِ الأمر وتوغلنا في بلادِ الغال حتى وصلنا إلى طرسونة، لقد كانت معنوياتُنا مرتفعةً والجندُ متكاتفٌ وقائدُنا رجلٌ متواضع لينٌ شجاعٌ همّام، ووصلنا إلى أبوابِ مدينة طولوشة، فتبادرت إلينا أخبارُ خروج دوق أكويتانيا إلينا بجندِه ودارت بيننا معركةٌ شديدة، صبرنا فيها صبرًا عظيمًا لكنّ استشهادَ السمحِ بن مالك أدّى لاضطرابِ صفوفِنا ولولا اجتماعُ كلمتِنا على اختيارِ أحدِ كبار الجند وهو عبد الرحمن الغافقيّ ليقودَ الجيش لما استطعنا العودة، لقد ناورَ هذا القائدُ الفذُّ جيوشَ الدوق واستطاع الانسحابَ بنا، ولكننا رَغم تلك الهزيمة ننوي العودةَ مُجددًا للثأر، لكم تحياتي وقبلاتي…

المراجع :-

  • فجر الأندلس .. الدكتور حسين مؤنس
  • معالم تاريخ المغرب والأندلس .. الدكتور حسين مؤنس
  • التاريخ الأندلسى من الفتح الإسلامى حتى سقوط غرناطة .. دكتور عبد الرحمن على الحجى
  • تاريخ افتتاح الأندلس .. إبن القوطيه
  • قصة العرب فى أسبانيا .. ستانلى لين بول
  • حضارة العرب .. غوستاف لوبون
  • الكفار .. أندرو هويتكروفت